الجنوب ينزف أبناءه قتلًا واختناقًا وتحت ركام الغارات

صدى وادي التيم – لبنانيات /

أمس، وقبل أن تشيّع بلدة صير الغربيّة في قضاء النبطية ابنتها زينب عبدو معتوق “33 ربيعًا”، إثر مقتلها ضربًا وتعنيفًا في مركز عملها في أحد فنادق بيروت، كانت ميس الجبل تحاول لملمة جراحها، بعدما فقدت عائلة بأكملها جرّاء غارة إسرائيليّة استهدفت “سوبر ماركت” تملكه العائلة في وسط البلدة، بعدما قدمت من بيروت لتفقّدها، وأدّت إلى استشهاد ربّ العائلة فادي محمد خضر حنيكة، وزوجته مايا علي يوسف عمار وولديهما محمّد (21 سنة) وأحمد (12 سنة).

قبلها بأيّام قليلة شيّع أبناء بلدة أنصار آية مرمر في موكب مهيب حمل فوق أكتاف عائلتها ومحبيها، بعدما قضت اختناقًا في مركز عملها في بيروت مع رفاق لها شباب في ربيع أعمارهم.

بين زينب وآية وعائلة حنيكة تتعّدد أسباب الموت وأشكاله، لكن تبقى النتيجة واحدة، هي أنّ الجنوب ينزف أبناءه، قتلًا واختناقًا وقصفًا في مراكز العمل ومصادر لقمة العيش.

اللقمة القاتلة

يطرح مقتل زينب في مركز عملها في أحد فنادق بيروت، وموت آية اختناقًا في أحد مطاعم العاصمة، قضية نزوح الشباب والشابّات من الأطراف إلى المدينة الكبرى بحثًا سعيًا وراء عمل لا يجدونه في قراهم وبلداتهم، فينزحون إليها ليس بدافع رفاهيّة وأمجاد بالية إنّما بحثّا عن قوت يعينهم على مصاعب الحياة.

زينب معتوق، وُجدت في مخزن الفندق حيث تعمل في بيروت وقد تعرّضت للتعنيف قبل أن يتم نقلها إلى المستشفى وتفارق الحياة

أمّا في قلب الجنوب، فتطرح المجزرة المروّعة التي أودت بحياة عائلة حنيكة أمس في الخامس من أيار/ مايو، قضية تعلّق النازحين بأرضهم ومساقط رؤوسهم ومصادر وأرزاقهم، جاؤوا لتفقدها، فكانت لهم طائرات الموت بالمرصاد، لتقتلهم بدم بارد، كما يجري عادة، منذ سبعة أشهر، بل منذ عهود طويلة، إذ ما فتئ العدو الإسرائيليّ يغتال أبناء الجنوب في اعتداءاته التي لا تنتهي، ويدّمر بيوتهم وإنتاج حقولهم ومتاجرهم وكلّ أسباب الحياة ليدفعهم إلى مزيد من النزوح وفكّ الارتباط الوثيق بينهم وبين قراهم.

تتشعّب تفاصيل الجرائم الثلاث، المنفردة والجماعية، وتتنوع، لتحاكي ارتفاع منسوب العنف الآخذ في الاتّساع يومًا بعد يوم، في ظلّ تراخي قبضة الدولة وتخلّيها عن أمن الناس ومواطنيها، وضعف عمل المؤسّسات، لا سيّما المؤسسات الأمنيّة، واستفحال أزمة اللاجئين، وانحسار فرص العمل، واستسهال ارتكاب الجريمة، والتفلّت من العقاب.

زينب قتيلة بمخزن فندق

كانت الساعة تشير إلى التاسعة والربع من صباح السبت الواقع في الرابع من أيار، حينما دخل أحد الموظّفين إلى مخزن الفندق حيث تعمل زينب ويجدها في حالة يرثى لها، نقلت على إثرها إلى مستشفى الجامعة الأمريكيّة في بيروت وهي في وضع حرج قبل أن تفارق الحياة.

“لم تكد تمرّ ساعتان على حضور زينب إلى دوامها الصباحيّ في الفندق، حيث تعمل منذ سنوات، حتّى أقدم شخص مجرم كان يعمل معها في الفندق على تعنيفها حتّى الموت”. هذا ما قاله المحامي حسين معتوق أحد أقارب زينب لـ”مناطق نت”. وأضاف: “إنّ زينب قتلت بجريمة حيوانيّة غرائزيّة لا يمكن وصفها، وهذا ما كشفته المعطيات الأوّلية للتحقيق الذي يتولّاه فرع المعلومات”.

وتبعًا لمعتوق فإنّ سبب الجريمة “هو أنّ زينب كشفت أمر المجرم حيث كان يضع كاميرات في غرف الملابس الخاصّة بموظّفات الفندق وغرفه، ما دفعه إلى استدراجها نحو مخزن الفندق حيث قام بضربها على رأسها بشكل مريب، لكنّها لم تحتمل إذ سرعان ما فارقت الحياة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت التي نقلت إليه”.

من موكب تشييع زينب معتوق في بلدة صير الغربية
أمن متفلّت ينذر بالرعب

لم تكن تعلم زينب معتوق ابنة الـ33 ربيعًا، أنّ عملها داخل الفندق في بيروت الذي التحقت به منذ سنوات عديدة، سينتهي بالقتل غدرًا، من خلال جريمة تعنيف بشعة تعرّضت لها. وقد هزّ خبر مقتلها على هذا النحو وفي هذا المكان، الرأي العام اللبنانيّ الذي لم يكن لتيستفيق بعد من فضيحة “التيكتوكرز” جورج مبيّض واستغلاله أطفالًا قاصرين جنسيًا، ما يطرح بشدّة جملة تساؤلات حول الواقع الأمنيّ وخلله في لبنان، وتحديدًا الأمن الاجتماعيّ الذي بات مهدّدًا وفي دائرة الرعب والقلق، جراء الجرائم المباشرة وغير المباشرة التي ترتكب بخفّة ودون رادع يردع.

“فراشة صير الغربية”، هذا ما أطلقه شبّان وشابّات البلدة المتواضعة في قضاء النبطية، على المغدورة زينب معتوق، التي ما أن انتشر خبر مقتلها حتّى سادت أجواء من الغضب خيمت على صير الغربية مسقط رأسها، فالكلّ لم يصدق بعد ما حصل، وكيف قتلت، وسبب قتلها، وعديد من أسئلة تناقلها أبناء البلدة التي خرجت في موكب وداع الشابة، انطلق من منزل عائلتها وقد عمّ الحزن والاستنكار المكان، ناهيك بالصدمة التي ألقت بتبعاتها على الجميع، وخصوصًا والدتها التي لم تستوعب بعد أو تصدّق أنّ “مدللّتها” قُتلت في جريمة بشعة جدًّا لم تكن لتخطر ببال أحد، إذ كانت تعتبر عملها في الفندق، منتهى الأمان.

آية مختنقة في مطعم

إذا كانت زينب قد قضت قتلًا وتعنيفًا في مخزن فندق نهار السبت الفائت (4 أيار/ مايو)، فإنّ آية قضت اختناقًا في مطعم قبل أيّام من مقتل زينب، بجريمة إهمال وانعدام المسؤوليّة. القدر الحزين لاحق آية (26 ربيعًا) وكان لها بالمرصاد. ووفق أقارب لها تحدثوا لـ”مناطق نت”، فإنّ آية كانت قد طلبت من صاحب المطعم نقلها إلى فرع آخر أقرب إلى منزلها، وأنّها لم تكن مرتاحة في الفرع الذي تعمل فيه بسبب بعده عن المنزل. فطلب إليها صاحب العمل أن تصبر عليه “كم يوم” ويحقّق لها ما تريد، لكن القدر كان أسرع وخطف آية إلى مكان آخر.

آية مرمر التي قضت في احتراق مطعم في بيروت

آية التي كانت تعمل محاسبة في المطعم، لم يكن دوامها في أثناء الحادث الذي نجم عن حريق التهم المطعم وأدّى إلى وقوع تسعة ضحايا معظمهم من الشباب، بل كان دوام زميلتها التي استأذنت من آية لأداء الصلاة وكلّفتها بأن تحلّ مكانها، فوقعت الحادثة في حينه، وقضت آية اختناقًا، ونجت صديقتها بعدما أصيبت بحروق، ولاحقًا حضرت بين جموع المعزّين في منزل ذوي آية.

عائلة حنيكة تحت الركام

لم يستطع فادي حنيكة وزوجته مايا عمار وولديهما محمّد وأحمد، الانتظار أكثر لتفقّد أرزاقهم في وسط بلدتهم ميس الجبل، فانتقلوا صباحًا من بيروت حيث نزحوا إليها منذ سبعة أشهر إلى وسط ميس الجبل حيث تقع الـ”سوبّر ماركت التي يملكونها. لكنّ طائرات الموت المتكرّر كانت بانتظارهم فأطلقت صواريخها المدمرة لتحصد أرواحهم المشتاقة إلى تراب بلدتهم فقضوا تحت ركام مؤسستهم.

اختار ربّ العائلة فادي حنيكة ابن بيروت، ميس الجبل للعيش والاستقرار والإقامة، يوم ارتبط بابنة البلدة الحدوديّة مايا علي عمار، وأنشآ فيها متجرًا باتّساع “سوبر ماركت”، وفيها رزقا بابنيهما محمّد وأحمد. وصباح أمس، أرادت العائلة أن تطمئنّ إلى مصدر الرزق ومحاولة نقل ما تيسّر من تموين يعينها على الإقامة التي استمرّت طويلًا في بيروت، لكن غدر العدو أتى على العائلة المسالمة التي لم تسع إلى أكثر من حقّها في تفقّد الرزق وجنى العمر.

بلدية ميس: لليقظة والتنبّه

صدر عن بلدية ميس الجبل، بيان جاء فيه: “مرة جديدة، يثبت العدوّ الاسرائيليّ أنّه يمتهن الإجرام ويتفنّن في القتل والتدمير وسفك دماء الأبرياء الآمنين، واليوم مجزرة جديدة تضاف الى سجلّ إجرام الإسرائيليّين، من خلال استهداف بلدة ميس الجبل بغارة جوّيّة معادية، وارتقاء الشهيدة مايا علي عمّار وزوجها الشهيد فادي حنيكة، ونجلاه الشهيدان أحمد ومحمّد حنيكة، شهداء الوطن وكل لبنان”.

وأضاف البيان: “إنّنا نضع هذه المجزرة المدانة والمستنكرة بكلّ المعايير الإنسانيّة والحقوقيّة والمواثيق الدوليّة، أمام الرأي العام المحلّيّ والعربيّ والدوليّ، ونؤكّد أن هذا العدو الجبان، يلجأ إلى استهداف المدنيّين لأنّه عاجز عن تحقيق الإنجازات في الميدان، ولن يزيدنا إجرامه إلّا صلابة وقوّة وعزيمة وصمودًا، وتمسّكاً بخيار ونهج المقاومة الذي ارتضيناه سبيلًا لتحرير أرضنا وحماية أهلنا وسيادتنا ووطننا”.

وختم البيان: “هذا العدوّ الغاشم لا يميّز بين مدنيّ وآخر، أو بين كبير أو طفل أو صغير، ولذلك فإنّنا مدعوّون للصبر والتحمّل، ومدعوّون أيضًا لليقظة والانتباه أكثر وأكثر خصوصًا في ما يتعلّق بالتنقّل، وبتفقّد البيوت والمؤسّسات والأرزاق، لأنّ عدوّنا يمتهن الغدر والإجرام…”.

رنا جوني – مناطق نت

عائلة حنيكة التي قضت في غارة اسرائيلية على بلدة ميس الجبل أمس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى