هل تتصوّرون برج حمود بلا أرمن؟

صدى وادي التيم-لبنانيات/

هنا برج حمود. جميلة جداً هي هذه البلدة الساحلية، بزحمتِها، بشعبيةِ محالها، بوجوهِ ساكنيها، وبنبضِ أرمينيا في أفئدة أولادها كلّما سمعوا باسمِها. لكن هل ما زالت برج حمود كما كانت؟ اليوم، في ذكرى الإبادة الأرمنية، قصدنا برج حمود، لكن، ليس كلّ من التقيناهم، كانوا من الأرمن. العدد أصبح أقلّ. ونظرية سادت أكثر: الإبادة ليس معناها فقط القتل الجماعي. تغيير وجهة المدن أيضاً إبادة وإن بشكلٍ آخر.

يوم سألنا الناقد الأدبي (عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة البلمند سابقاً) الدكتور جورج دورليان عن أحوال أرمن لبنان أجاب: «نتعرض الى هجرة جديدة. ثمة 250 ألف أرمني في لبنان يتعرّضون الى هجرة جديدة».

الهجرة هي حال الأرمن- وغير الأرمن- في لبنانهم. لكننا، في ذكرى الإبادة، قصدنا برج حمود تحديداً لرمزيتها. يومياً، نسمع عن مشاكل وجرائم وسرقات في تلك البلدة. وجوه سكّانها باتت أقسى من قبل. تبدو تعبة. الوضع في لبنان أنهك حال الأرمن ليس في برج حمود وحسب بل في كل لبنان. وما زاد الطين بلّة هو وجود هذا الكمّ من اللاجئين السوريين الذين بدوا كمن قال للأهالي الأصيلين: كشّ ملك!

ماذا في الوقائع؟

نجول في الأرجاء. لا شيء يوحي بأن اليوم ذكرى الإبادة. وحدها نسخات عن ورقة ألصقت على الحيطان ذكّر مضمونُها أهل برج حمود بالمناسبة: في ذكرى المجازر والإبادة الأرمنية، وتضامناً مع الذكرى الأليمة، يطلب من المحال التجارية إقفال أبوابها يوم الأربعاء 24 نيسان 2024. التوقيع: بلدية برج حمود. ثمة عبارة طُبعت بالألوان على الجدران دلّت أيضاً على المناسبة لكن بأسلوب آخر: «شجّعوا الصناعة اللبنانية… قاطعوا المنتجات التركية». هي منتجات باتت كثيرة في برج حمود وضواحيها بعد أن كثر السوريون في الأرجاء يتاجرون بما تيسّر من منتجات بين أيديهم: «بالسوري والتركي والإيراني».

حلم الهجرة

ندخل الى محل يبيع شيئاً من كل شيء، من البهارات والمكسرات والسكاكر. هو موجود منذ سبعين عاماً. يقول صاحبه إن والده أداره قبله لكنه قد لا يجد من يديره بعده «فأولادي أصبحوا جميعاً في ألمانيا» ويستطرد: «تمنيتُ لو أستطيع المغادرة أيضاً لكنني أفتقر الى اللغة لكن، من يدري، قد أغادر في يوم ما». هذا أقصى أحلام من شكّلوا برج حمود كما عرفناها. ثمة صبيّة تشتري قليلاً من الفستق وأوقية من البهار الحرّ وأوقيتين من «البونبون»… سألناها عن الذكرى اليوم؟ سألتنا: ماذا؟ ماذا تقصدون؟ سألناها عن الإبادة؟ أجابت: لم أفهم. نظرنا الى صاحب المتجر فأخبرها، باللغة الأرمنية، ما قصدناه. فأجابت مجدداً: «لم أفهم… لا تعنيني». هي المرة الأولى التي نسمع فيها هذا النوع من الكلام من أرمني (أو أرمنية). يُسارع الأرمني (البالغ) الى شرح ما قالته: هي تنتمي الى الجيل الأرمني الجديد. نحن، جيلي، أجدادنا عاشوا المجزرة ونقلوها إلينا لكننا، على ما يبدو، فشلنا في نقلها بالنبض الحيّ الى الجيل الجديد». تبتسم الصبيّة وتخبرنا خطتها المستقبلية: «سأنتقل بعد عشرة أيام الى قطر لأعمل في القطاع الفندقي. تعبت من العيش قلقة. لا أمان. أريد أن أرتاح».

منهكةٌ هي الحياة الجديدة في لبنان. الأرمن يعانون اليوم الأمرّين من فورة الوجود السوري في منطقة برج حمود. اللبنانيون الأرمن تعبوا- كما جميعنا- من كل ما مرّ على لبنان من مآسٍ في نصف عقد وعزّزها كل هذا الشغب- والمزاحمة- والاستقواء من شعبٍ نزح الى مناطق لبنانية ليصمد ويعيش فقوّض كل سبل العيش والصمود لأهله.

شارع مرعش (قهرمان) كان يقع بين قلقيقية (كيليكيا) والأناضول في جنوب تركيا- عند أقدام جبال طوروس. وهو انتقل- قبل مئة عام- الى برج حمود. كل المنتوجات الأرمنية كانت موجودة هنا. الآن، كل المنتجات السورية موجودة هنا. الأرمني، بائع المواد الغذائية جاره سوري بائع مواد غذائية. اللحام السوري فتح للتوّ ملحمة جنب لحام أرمنيّ. حتى، بائع الألعاب الشهير في نصف شارع مرعش يجاوره محل ألعاب «صنعت في سوريا». نكاد نشعر أننا في «سوق الحميدية» لا في «مرعش». فهل سيقفل الشارع كلياً اليوم؟ يجيب أرمنيّ «لوّعته» التطوّرات: «البلدية أنذرت ومن سيفتح محلّه ستنظّم به ضبطاً». أين غادر أصحاب المحال الأرمن؟ الى أنطلياس وجل الديب والزلقا والى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية «الأرمن يبنون في كل مكان يحلّون فيه». تعلّق أرمنية.

قداديس

نسمع صوت الرصاص فيعلّق أحد المارة: لا تخافوا. فرقيع. الناس على أعصابهم. لا أحد مرتاح. اليوم ذكرى مجازر الإبادة الأرمنية لكن- لأول مرة منذ أكثر من قرن- البال في مكان آخر. عضو بلدية برج حمود نزاريت أبونايان يقول: الاحتفالات ستنظم. اليوم بعد الظهر سيكون قداس إحتفالي في مدرسة الجمهور في منطقة الجعيتاوي في الأشرفية. سيقام قداس لا جناز لأنه- بعد مرور مئة عام على الإبادة- أصبح الشهداء بمثابة قديسين. لا يحتاج القديسون الى جنازة بل الى صلاة خاصة».

اليوم، يصلي اللبنانيون الأرمن الى شهدائهم ليعودوا غداً الى حياة باتت قاسية على الجميع. يمرّ رجل في الجوار فيشير لنا الى دكان مقفل بالشمع الأحمر من المديرية العامة للأمن العام- مركز المتن الإقليمي. نقرأ في مضمون الختم: تمّ ختم هذا المحل بالشمع الأحمر بناء لإشارة النيابة العامة الاستئنافيّة في جبل لبنان بشخص حضرة القاضي سامي صادر المتضمنة قرار حضرة مدير عام الأمن العام بالإنابة. إن كلّ مسّ أو تخريب أو تحريض يعرّض صاحب المحل للملاحقة القانونية». لماذا هذا التنبيه ثم الختم؟ يجيب اللبناني علي زين الدين الذي ولد هنا وكبر هنا ومقهور من كلّ ما يجري هنا: «تغيّرت صورة المنطقة كثيراً. وهذا المحل استأجره سوري من أرمني. عبث فيه. وسافر مع عائلته الى اليابان. لا أمان في المنطقة. هويتها تتغيّر. يتدخل صديق لعلي قائلاً: «أنا زلمي وأخجل أن أقول ما يقوله الأطفال السوريون. هم يكبرون في الشارع. ويومياً يأتي الى محلي سوريون- معهم أطفال يريدون تأمين العمل لهم: في السادسة وفي السابعة وفي الثامنة من أعمارهم. هؤلاء ينجبون «بيزنس» لا لتأسيس أسرة. لا تربية ولا علم ولا أخلاق».

نسبٌ عدّة تتكرّر على الألسنة جواباً عن سؤال: كم تدنى عدد اللبنانيين الأرمن في شارع مرعش؟ وكم زاد عدد السوريين؟ يجيب علي: 15 في المئة أرمن والبقية سوريون وأثيوبيون… يصل ديكران ينادونه ويسألونه: كم هو عدد الأرمن في 2024 في برج حمود؟ يجيب: 15 في المئة.

النسبة الأعلى … للأرمن

نعود لنسأل العضو البلدي نازاريت عن الرقم الحقيقي؟ يجيب: «ما يُشاع عن نسب هو خاطئ تماماً. في شارع مرعش 200 محل على الأقل، يملك ويدير 160 منها أرمن. هذه إحصاءات رسمية. صحيح أنه في بقية شوارع برج حمود النسبة أقل لكن نسبة إشغال الأرمن لا يقل عن 55 في المئة. يعني ما زال الأرمن أكثر من غيرهم. ويستطرد بالقول: نحن هنا وسنبقى هنا. لا خوف على الأرمن. لن يهاجروا. وصلنا الى لبنان عام 1920 وعشنا على البحر طوال أحد عشر شهراً وذقنا الأمرّين قبل دخولنا الى مخيّمات في منطقة الكرنتينا. نحن كنا نراهن على العودة الى مرعش في أرمينيا وحين عرفنا أن لا عودة الى هناك قررنا بناء مرعش هنا. نحن لا نستسهل ترك ما نؤسس له برمش العينين».

اللبنانيون الأرمن سيصلّون اليوم الى شهدائهم. سيتأخرون قليلاً بالعودة الى منازلهم. هم أصبحوا يعدّون الى المئة قبل الخروج بعد هبوط الظلام. لكن، رأي نازاريت مختلف: «نحن لا نخاف من الخروج بل هم من عليهم أن يخافوا. وواجب الدولة أن تحمينا». ويستطرد متذكراً ما أخبرته به معلمة في زغرتا: «قالت إنها تعلم قبل الظهر لأولاد البلد فتتقاضى 140 ألف ليرة عن كل ساعة تعليم، بينما تتقاضى 130 دولاراً (يبدو الرقم مضخّماً) عن كل ساعة تعليم في دوام بعد الظهر المخصص للسوريين. ثمة من يستفيد من الوجود السوري». نتذكر أن بلدية برج حمود تستفيد هي أيضاً من خلال مشاريع وبرامج ممهورة في كل حيٍّ وزقاق في المنطقة.

تغيّرت برج حمود

الكثافة السورية تقلق الأرمن في برج حمود. مساحة البلدة 2,25 كيلومتر مربع وتضمّ (أو كانت تضمّ) 160 ألف نسمة. والمحال مؤجرة بغالبيتها ولا يقلّ سعر المحل الواحد- مترين بمتر- عن 150 دولاراً. تغيرت برج حمود اليوم وتغيّر كل لبنان.

سطل اللبن، خمسة كيلوغرامات، يباع بمئتي ألف ليرة فقط لا غير في محال السوريين. والسوريون لا يشترون إلا من بعضهم. خيّاطة أرمنية بالكاد تتمكن من شك الإبرة، بعدما طعنت في السن، تخبر هي وزوجها عن «غربة برج حمود عن واقعها». نسأل جارتها- التي آل إليها محل «كافيه كارو» بعد موت والدها كارو- عن الوضع فتجيب: Down. الأرمن أصبحوا قلة. كلهم سافروا. والأرمن- بصراحة- يبنون كل مكان يعيشون فيه. لبنان يخسر الأرمن لمصلحة الفوضى».

ماذا بعد؟

اليوم، في 24 نيسان 2024، تحل ذكرى الإبادة الأرمنية. لا الأرمن بخير ولا برج حمود بخير ولا لبنان، كل لبنان، بخير. ثمة أصوات ترتفع. هو خلاف بين شابين سوريين وشاب أرمني يريد استعادة موقف سيارته منهما. هو خلاف عادي في بلد باتت الحياة فيه غير عادية.

المصدر: نوال نصر – نداء الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!