سجال لبناني – لبناني حول تعويضات الحرب… فمن سيدفع؟
صدى وادي التيم – لبنانيات /
دخلت عملية التعويضات على أبناء الجنوب اللبناني وعائلاتهم ممن تضررت منازلهم أو تهدمت أو سقط لهم ضحايا، جراء الحرب الدائرة على الحدود مع إسرائيل، هي الأخرى في السجال السياسي الذي تشارك فيه معظم القوى الحزبية والسياسية حيال أي موضوع أو استحقاق، ويتحول بسرعة فائقة من قضية إلى مناكفات وجدل، تسهم في تأجيجه تصريحات من هنا وهناك، وكذلك وسائل إعلام محلية تدفع بقوى سياسية أو ناطقين باسمها إلى تصريحات قد تخرج في أحيان كثيرة عن حجم هذه المواضيع والاستحقاقات وحدها.
يتولى “مجلس الجنوب” الذي ترتبط مهامه برئيس مجلس الوزراء مباشرة، والمنشأ بتاريخ 12 يونيو (حزيران) 1970، “القيام بجميع الأعمال التي تؤول إلى تلبية حاجات منطقة الجنوب وتوفير أسباب السلامة والطمأنينة لها، ويتمتع بأوسع الصلاحيات اللازمة للقيام بمهامه”، بحسب ما ورد في قانون تأسيسه. وهو منذ ذلك الحين يتولى عملية تنفيذ عشرات المشاريع التي تتعلق بإنشاء محطات الماء والكهرباء وشبكاتها والآبار الارتوازية وبناء المدارس والمستوصفات وشق الطرقات، ناهيك بتعويض الجنوبيين جراء أي حرب يتعرضون لها من قبل إسرائيل ومعالجة الجرحى والمصابين.
في المقرر سابقاً
بعد أقل من شهرين على انطلاق الحرب بين “حزب الله” والإسرائيليين على الحدود الجنوبية، أقر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، ومن خارج جدول الأعمال، “مبدأ التعويض على المتضررين مالياً وجسدياً جراء القصف الإسرائيلي منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على البلدات الجنوبية”. وجاء القرار بينما كانت الفرق المتخصصة في مجلس الجنوب تنهي جولاتها الميدانية الأولية على البلدات التي طالها القصف لإحصاء الأضرار.
وقد وافق مجلس الوزراء “على اقتراح مجلس الجنوب بتعديل قيمة التعويضات بالليرة اللبنانية التي لا تزال تحتسب وفق سعر صرف 1500 ليرة للدولار، إذ طلب المجلس زيادة المبالغ بالليرة لتعادل بالدولار ما دفعه المجلس عام 2006، عندما تقاضى صاحب المنزل المهدم كلياً، تعويضاً بقيمة 60 مليون ليرة، وهو ما كان يساوي 40 ألف دولار”.
كما أقرَّ “جداول مقترحة من مجلس الجنوب لاحتساب التعويضات على الشكل الآتي: ثلاثة مليارات و600 مليون ليرة (تساوي 40 ألف دولار) للوحدة السكنية المهدمة كلياً، ستدفع على ثلاث دفعات. ومليار ليرة (تساوي 11 ألف دولار) للوحدة السكنية التي يلزمها ترميم. أما مخصصات الجرحى المصابين بعطل دائم، وذوي الضحايا، فستراوح بين 10 آلاف دولار و20 ألفاً”.
إحصاءات وأضرار
ويحصي الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، سقوط نحو 350 ضحية وقتيلاً من اللبنانيين في الحرب الدائرة في الجنوب منذ الثامن من أكتوبر 2023، بينهم 259 عنصراً من “حزب الله”، و56 مدنياً، ويتوزع الباقون على “حركة أمل”، و”الجماعة الإسلامية”، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” (عنصر واحد) وثلاثة صحافيين، وعنصر واحد من الجيش اللبناني.
وحول أضرار الحرب في الجنوب يقول شمس الدين، “أدت هذه الحرب إلى نزوح نحو 90 ألف مواطن، من بينهم 12 ألف طالب تعطلت سنتهم الدراسية. وإلى احتراق 10 ملايين متر مربع من الأراضي الزراعية لا سيما أشجار الزيتون، وهذا الرقم موقت، وعدم تمكن المزارعين من زراعة مواسمهم الأخرى، آخرها موسم التبغ في مارس (آذار) الماضي. وهناك 1500 منزل مدمر بشكل كلي، و1700 منزل بأضرار جزئية، و4200 منزل بأضرار بسيطة، وتقدر هذه الأضرار مجتمعة بنحو 360 مليون دولار أميركي”.
ويضيف شمس الدين، “أدت الحرب إلى تراجع الحركة الاقتصادية وإلى ركود بلغت نسبته 10 في المئة كحد أدنى. وإذا ما اعتبرنا أن الناتج القومي هو 22 مليار دولار سنوياً، أي 60 مليون دولار يومياً، تكون الخسارة اليومية نحو ستة ملايين دولار، وفي 180 يوماً من الحرب تصل الخسارة إلى مليار و80 مليوناً، تضاف إليها 360 مليوناً، فتصبح الخسارة الإجمالية نحو مليار و440 مليون دولار”.
ماذا عدا مما بدا؟
وبعد ستة أشهر على استمرار الحرب، لم ينف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي حق الجنوبيين في التعويضات اللازمة، لكنه أكد من طرابلس بتاريخ 22 مارس (آذار) الماضي، أنه مع استمرار العمليات العسكرية في الجنوب “من المستحيل القيام بأي خطوة لإحصاء الأضرار وتحديدها أو كلفتها. وكل ما تتم إشاعته في هذا الإطار غير صحيح، خصوصاً أن الجميع يعلم الإمكانات المحدودة للدولة”.
في هذا الوقت، هاجم عضو كتلة حزب “الكتائب اللبنانية” النائب نديم الجميل، في منشور على منصة “إكس”، ميقاتي قائلاً “رئيس الحكومة الذي كان قد أقرَّ علناً أن قرار الحرب والسلم ليس بيد الدولة، أعلن وضع خطة للتعويض عن الأضرار التي سببتها مغامرات حزب الله وجبهة المساندة”. وأضاف “حزب الله يجلب الخراب وعلى الدولة التعويض؟ فليعوض هو وإيران… ومئات الضحايا من الطوائف كافة، سقطوا في انفجار بيروت بسبب إهمال الدولة، ولم نسمع أي كلمة عن تعويضات”.
وأعلن أنه “في حال أقرت الخطة، لن نتأخر عن العصيان المدني ووقف دفع أي ضرائب ورسوم للدولة اللبنانية، التي على رغم الإفلاس تصر على صرف الأموال، بعد مغامرات ميليشيات خدمة لأجندة خارجية لا تمت بصلة إلى لبنان”.
كان كافياً كلام الجميل ليثير زوبعة جدل واسع انقسم اللبنانيون حياله، بين مؤيد ومعارض، خصوصاً بعدما اعتبر كلام ميقاتي من طرابلس بمثابة نفي وجود خطة لدفع تعويضات، إذ لا إمكانية للدولة للقيام بذلك.
“التعويض بديهي”
يؤكد مصدر مسؤول في “مجلس الجنوب”، أن “الموضوع ليس موضوع قرار أو عدمه، فمن البديهي أن تعوض الدولة على الناس خسائرهم وهذا ضمن مهامها الطبيعية، فيما كل ما عليها أن تفعله هو تأمين الاعتمادات. التي تبلغ بحدها الأقصى للمنزل المدمر 40 ألف دولار أميركي”. ويضيف أن “الدولة لا يمكن أن تدفع مقابل كل الأضرار للتعويض عليها خصوصاً إذا كنا نتحدث عن بناء فيلا بكلفة أكثر من مليون دولار، فمن أين ستأتي له الدولة بهذه الأموال؟ هي ستعطي بشكل يسمح لصاحب البيت المهدم أن يبني بيتاً يأوي إليه ويسكن فيه”.
المقاتل كالجندي
ويضيف المصدر أن المجلس سيدفع لعائلات الضحايا 20 ألف دولار عن شخص قتل في القصف، وستتلقى عائلة القتيل الذي ينتمي لـ”حزب الله” المبلغ عينه، لكن ما يزيد عليه أنها ستتقاضى كذلك راتباً شهرياً تماماً مثل الجندي، ويشمل هذا الأمر عناصر الدفاع المدني والمسعفين ممن سقطوا، فهؤلاء يؤدون دوراً محورياً، حتى لو لم يكونوا من حاملي السلاح، ويبقى كذلك حتى انتفاء شرط الحصول على الراتب كزواج الابنة الوحيدة، تماماً مثل عناصر الجيش اللبناني، والقرار أنه يعامل معاملة جندي أول في الجيش”.
ويشير المصدر إلى أن المجلس “لم يدفع حتى الآن أي تعويضات، لأن الأمر يحتاج إلى تحويل من الحكومة. هناك نحو 300 قتيل، من بينهم عناصر من حزب الله، يضاف إليهم نحو 10 آلاف منزل متضرر بين أضرار جزئية وتدمير كامل، أما المنازل المدمرة بالكامل فهي قرابة 800 وحدة سكنية أو أقل بقليل”.
تعويضات عينية يومية
وتتحدث مصادر المجلس عن تقديم مساعدات عينية شبه يومية، “قدمنا 52 ألف حصة غذائية على مرتين، لنحو 25 ألف عائلة، وهذه فقط للمقيمين في الجنوب. قدمنا لمن هم في المنازل المستأجرة أو التي انتقلوا إليها، عند أقاربهم مثلاً، وفي مراكز الإيواء والصامدين في بلداتهم وقراهم ممن لم يغادروا، وهؤلاء لهم الأولوية، في جميع القرى الحدودية، وهؤلاء أوضاعهم أسوأ من أوضاع النازحين”.
وتلفت مصادر مجلس الجنوب إلى “أن المجلس قادر حتى الآن على متابعة الأمور الصغيرة من موازنته الحالية، لكن إذا طال أمد الأزمة، من المؤكد أن تمويلنا لا يكفي للمتابعة والاستمرار”.
التعويضات بعد انتهاء الحرب
ويقول المصدر المسؤول إن “المجلس لن يدفع لقاء أضرار البيوت ودمارها قبل انتهاء الأعمال العسكرية، إذ لا إحصاء دقيقاً لدينا، سنحصي مع انتهاء الحرب ونقرر ماهية التعويض وحجمه”.
ويضيف، “في التعويضات على الضحايا نطلب من الحكومة تزويدنا بسلفات وأموال، الأمر واضح لا لبس فيه، سقوط القتيل صار أمراً واقعاً ولن يتبدل أي شيء، ولكن البيت المتضرر ربما يتضرر أكثر، ولا جدوى من التعويض حالياً على الأضرار العمرانية”.
وحول الجدل الحاصل في البلاد تجاه التعويضات، يقول المصدر “ثمة جهات سياسية تقول إن على الدولة ألا تدفع فلساً واحداً، ومن ذهب إلى الحرب فليدفع هو، هذا أمر لصيق بالسياسة، كلما تحدثنا بموضوع التعويض ينتفضون”.
وينهي المصدر، “كل ما يقدم اليوم لا يلبي الحاجات الفعلية للنازحين، ما نقدمه لهم قليل تجاه أوضاعهم وحاجاتهم الكثيرة، فمن ترك أرضه ونزح ليس لديه مصدر رزق وهو أصلاً ليس متمولاً أو عنده مدخرات يمكن أن يصرف منها على أبنائه. إنهم يعيشون كل يوم بيومه لذلك حاجاتهم كثيرة”.
“حق وطني”
في هذا السياق، يشير النائب قاسم هاشم من “كتلة التنمية التحرير” (كتلة “حركة أمل”)، وهو أصلاً من بلدة شبعا التي ما فتئت تتعرض للقصف، منذ الثامن من أكتوبر، وقبلها بسنوات طويلة، إلى “أن دفع التعويضات على الضحايا والممتلكات يحتاج فقط إلى التمويل، وهذا يتم عبر قرار من مجلس الوزراء لتحويل الاعتمادات اللازمة، ثم من البديهي أن يدفع مجلس الجنوب التعويضات، سواء على الضحايا، وهو أمر طبيعي ومتفاهم عليه وليس وليد ساعة أو وليد ما حصل في الأشهر الأخيرة، أو التعويضات على الأماكن المتضررة وكل ما هدمه القصف الإسرائيلي”.
ويعتبر هاشم أن “الموضوع هو كيفية تأمين التمويل لا أكثر ولا أقل، وهو ليس مدار جدل أو سجالاً سياسياً مهما كان موقف البعض، وأن خسائر أبناء الجنوب يفترض أن يتكرس الإسهام الوطني في التعويض عليهم”، كما يقول، مضيفاً أن “أي كلام خارج هذا المفهوم هو كلام في السياسة وفي غير مكانه وزمانه”.
ويلفت النائب إلى أن قيمة التعويضات “سواء كانت بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية، يتم التفاهم عليها وقت الدفع، لكن ضمن السعر الرسمي المتداول والمعمول به، أي وفق سعر السوق، الدولار دولار”.
الجنوب مأساة كل الوطن
النائب إلياس جرادي، ابن بلدة مرجعيون الجنوبية، يأسف “أن هناك أناساً حتى الآن لا ينظرون إلى هذه القضية على أنها قضية وطنية مركزية، حتى لو كان هناك خلاف بالسياسة بين الفرقاء، لكن ما يحصل في الجنوب هو اعتداء على كل لبنان، وعلى كل الشعب اللبناني، ونحن بأشد الحاجة اليوم إلى توحيد اللبنانيين حول قضايا وطنية مشتركة وأهمها ما يجري في الجنوب للشعب الجنوبي”.
ويضيف، “من يأخذ هذه المواقف في مثل قضايا كهذه، لا نعرف ما هي حساباته، ونعتقدها حسابات ضيقة وشعبية يحاول استخدامها في الاستنهاض الطائفي ليس أكثر. يجب على كل الشعب اللبناني أن يكون متضامناً مع أهل الجنوب وأن يظهر في هذه اللحظات المصيرية الوحدة الوطنية حوله”.
ويعتبر جرادي أن “التعويضات إذا كانت من مجلس الجنوب أو من خلال مجلس الوزراء، يجب أن تكون مراقبة وألا تتكرر التجارب السابقة التي تميزت بعدم الشفافية لكي تصل الأموال والمساعدات إلى مستحقيها”.
“الأحادية والفوقية”
في المقابل، ينتقد عضو “كتلة الجمهورية القوية” (حزب “القوات اللبنانية)، النائب جورج عقيص، ازدواجية المعايير لدى الحكومة. ويقول “عندما تعوض الحكومة اللبنانية على متضرري انفجار مرفأ بيروت فلتعوض بعدها على من تريد. وقبل التعويض على انفجار المرفأ والخراب الذي حل بأحياء كاملة في بيروت بسبب هذا الانفجار، أعتقد أن الحكومة تخالف مبدأ أساسياً وهو المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، وفق ما نصت عليه مقدمة الدستور، البند جيم”. ويشير إلى وجود المبدأ القانوني “دفع عدم قبول”، قائلاً “أنا أدفع بعدم قبول إذا لم تحصل مساواة بين اللبنانيين”.
أما في ما يتعلق باقتراح الجميل باللجوء إلى العصيان المدني، فيقول عقيص، “أعتقد أن أي شيء نطالب به اليوم صار مبرراً ومباحاً. ما يفعله حزب الله في البلد، فعل يتيح للبنانيين اتخاذ خيارات لم يكونوا يفكرون بها، لأن هذا التمادي في استباحة قرار السيادة اللبنانية وعرقلة انتخاب رئيس الجمهورية وانتظام عمل المؤسسات، وفي ظل التمادي بهذه الأحادية والفوقية، برأيي العصيان المدني قليل”.
ويختم نائب “القوات” بدعوة “حزب الله” إلى احتساب “خط الرجعة”. ويقول، “هذه دعوة صادقة لفريق الممانعة، أن يحسبوا خط الرجعة، لأن استثارة اللبنانيين بهذا الشكل وإذلالهم بالشكل الذي نعيشه اليوم لم يعد مقبولاً. كل فرد يسافر من لبنان اليوم لا يعرف إذا كان سيعود، المطار مغلق أم لا؟ واللبنانيون أولادهم ما عادوا يأتون إليهم خوفاً من اندلاع حرب، كفانا حروباً في هذا البلد”.
المصدر: كامل جابر – اندبندنت عربية