في الجنوب بقية أسواق لبنان الشعبية… كيف أحوالها؟

صدى وادي التيم-لبنانيات/

إن الحديث عن الأسواق الشعبية التاريخية في لبنان يأخذنا مباشرة إلى أسواق الجنوب القائمة منذ مئات السنين، وأشهرها سوق الإثنين في النبطية، سوق الخان (الثلاثاء) في حاصبيا، وسوق الخميس في بنت جبيل، فيما فرخت الأحداث الأمنية المتعاقبة على جنوب لبنان منذ عام 1948، أسواقاً شعبية متفرقة وأسدلت الستار على أسواق أخرى كانت قائمة. وتأتي المعارك الأخيرة الدائرة على الحدود الجنوبية منذ أكثر من ستة أشهر، لتجمد سوقي الخان وبنت جبيل الكبيرتين وجميع الأسواق المتفرقة، بينما بقيت سوق الإثنين وحدها صامدة، تنعقد كل يوم إثنين، من مشرق الشمس حتى دلوفها، في الوسط التجاري لمدينة النبطية.

لا أسواق شعبية تاريخية أخرى في لبنان، ما عدا سوق الأحد المنعقدة كل نهار أحد في ضاحية بيروت الشمالية، قرب سن الفيل، وهي حديثة العهد مقارنة مع أسواق الجنوب، إذ بدأت تنعقد منذ عام 1989، وتستمر متأثرة في نشاطها بكل ما يجري حولها من أحداث سياسية أو أمنية.

تعتبر سوق الإثنين في النبطية من أشهر أسواق لبنان، وذاع صيتها إلى البلاد العربية، فهي قائمة منذ أكثر من سبعة قرون، بحسب المصادر التاريخية المتناقلة والمتواترة. وكان بديهياً في ظل وجود قلعة مثل قلعة الشقيف، التي تنقلت بين حقبات تاريخية مختلفة من البيزنطيين إلى الصليبيين فالمماليك ثم العثمانيين وغيرهم من العائلات الإقطاعية، وتبعد كيلومترات قليلة نحو الشرق من مدينة النبطية، أن تكون الممرات والمعابر إليها، تتفرع من النبطية عينها التي كانت تشكل نقطة وصل وسطية وقديمة جداً بين صيدا وصور ومرجعيون، بالتالي بين لبنان وفلسطين وسوريا. ومن الطبيعي أن تتأثر النبطية هي الأخرى وسوقها بأهمية قلعة الشقيف وجيرتها والشعوب المتعاقبة عليها.

 

سوق الإثنين النبطية

تستمر سوق الإثنين في انعقادها كل إثنين من كل أسبوع، من مشرقه وحتى دنو مغربه، وفي مختلف الفصول، حتى تحت المطر، فتنتشر منذ الصباح الباكر “بسطات” البائعين القادمين من كل الأرجاء لعرض بضائعهم، وجلها من المستورد، في مربع طرقات تحيط ببيدر النبطية وفي جزء من الوسط التجاري. وما إن تبدأ وفود الناس تتقاطر إلى السوق، حتى تعلو أصوات الباعة يدللون على بضائعهم وأسعارها في محاولة شد انتباه الشراة أو تفعيلاً لحماستهم في شراء بضائع معينة.

البسطة هنا تعني إما خيمة قائمة على أربعة قضبان حديدية متصلة من أعلى تنتشر في داخلها البضائع المعروضة على طاولات أو رفوف، أو كناية عن ألواح خشبية عريضة تبسط عليها البضائع المختلفة في الهواء الطلق. “تقوم البسطة على مساحة محددة من الأمتار المربعة، وكلما امتدت أو اتسعت ارتفعت نسبة الضريبة المدفوعة من أصحابها إلى بلدية النبطية، كرسم إشغال أملاك عمومية، ويبلغ الرسم حالياً 250 ألف ليرة لبنانية مقطوعاً (نحو 2.8 دولار)، وسيرتفع قريباً إلى نحو 400 ألف (نحو 4.5 دولار)”، والكلام لعضو مجلس بلدية النبطية المهندس حسين جابر.

يضيف جابر، “تتراوح البسطات المؤلفة لسوق الإثنين في الوقت الراهن بين 460 و500 بسطة، لا تزيد رسومها في ساعات السوق على 1200 دولار أميركي في حدها الأدنى و1400 دولار في حدها الأعلى، يفد إليها كل إثنين بين ثلاثة وخمسة آلاف زائر ومشتر، يرتفع عديدهم إلى نحو 10 آلاف وأكثر في الأسابيع القريبة من الأعياد”.

تتنوع البضائع المنتشرة في السوق اليوم عما كانت عليه منذ نحو نصف قرن، إذ طغى المستورد منها على ما عداه، ولولا بسطات الخضراوات والفواكه والحبوب الجنوبية المصدر، لقلنا إن بضائع السوق كادت تكون كلها مستوردة من خارج البلاد، من الأواني وأدوات المطبخ ولوازمه وألعاب الأطفال إلى الملبوسات والأقمشة والأحذية، البهارات والبزورات والحلويات والمرطبات، والمواد الغذائية والزيوت والعطور ومواد التنظيف و”الأكسسوارات”. وتنشط منذ سنوات خلت معروضات الأدوات والأغراض البيتية القديمة (آنتيك) والنحاسيات العتيقة.

تتوزع سوق الإثنين وسط عشرات المتاجر والمؤسسات المختلفة التي تؤلف الوسط التجاري للنبطية، وتؤثر مبيعات السوق على مبيعاتها، “إذ إن بضائع البسطات لا تتحمل الضرائب عينها التي تقع على عاتق المتاجر الثابتة، كإيجارات المحلات والدكاكين وما يلحقها من ضرائب بلدية وكهرباء وماء، لكن ومن باب تشجيع انعقاد السوق واحتراماً لتاريخها وحضور التجار من أماكن بعيدة يتسامح أصحاب المتاجر في انتشار البسطات أمام محلاتهم، فهم كذلك سينالون من زبائن السوق نصيبهم”، بحسب المهندس جابر.

في الأسابيع الأولى لانطلاق شرارة الحرب على الحدود الجنوبية (التي بدأت في الثامن من أكتوبر 2023)، تأثرت سوق النبطية فخف نشاطها وتجارها وتراجع روادها، لكنها ما لبثت أن استعادت زخمها، خصوصاً مع اقتراب موعد عيد الفطر، في أبريل (نيسان) المقبل. وهي تزدحم عادة قبل كل عيد أو في العطل المدرسية، فيرافق الأبناء ذويهم في رحلة السوق والتسوق، لكن ما ينقص السوق فعلاً هي المنتجات القروية والمحلية التي كانت تأتي إليها من أقضية حاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل، حيث تتركز المعارك حالياً، خصوصاً مزروعات السهول المنتشرة بكثافة في قضاء مرجعيون، وقد توقفت كلها مع الزراعات الموسمية بسبب نزوح معظم سكان هذه الأقضية منذ ستة أشهر وانحسار الزراعة والعمل في السهول والحقول.

ليست المرة الأولى التي تتأثر فيها السوق بعمليات القصف والتهجير التي ما فتئت تحصل في المناطق الجنوبية من قبل الإسرائيليين الذين صال جنودهم وجالوا في وسط السوق بعد اجتياح لبنان وجنوبه سنة 1982، واستمر إلى تاريخ انسحاب الإسرائيليين من النبطية سنة 1985 وتمركزهم على تلال تحدها وتشرف عليها، حتى عام 2000، تاريخ الانسحاب الكبير.

ليس الوضع الأمني القائم حالياً في الجنوب، جديداً على سوق النبطية الشعبية، إذ إن المدينة بدأت تتعرض لقصف إسرائيلي طالها مراراً وتكراراً منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في عام 1974. وكانت تتأثر به السوق وتتوقف في أحيان كثيرة بحسب شدته وطول أمده. وقد طال القصف قلب النبطية أكثر من مرة في أثناء ازدحام السوق، مما أدى إلى سقوط عديد من الضحايا المدنيين، من الباعة ومن الرواد. كذلك تأثرت السوق جراء بقاء قسم كبير من الجنوب تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة نحو ربع قرن، مما أثر في حركة التجار إليها وكذلك حركة المتسوقين، وأضعف قوتها الشرائية والشعبية واحتشادها، إذ كان الانتقال من منطقة الشريط الحدودي إلى النبطية وباقي المناطق اللبنانية يحتاج إلى تصاريح مسبقة.

وكانت لجائحة “كورونا” آثار جلية في توقف السوق بشكل قسري مدة أربعة أشهر متتالية، من أوائل مارس (آذار) وحتى مطلع يونيو (حزيران) 2020، وكانت أطول مدة تتوقف فيها السوق طوال تاريخها وعمرها.

تاريخ سوق الإثنين

كانت النبطية بحسب المؤرخين محطة للقوافل العابرة في مختلف الاتجاهات، وقد حطت بعضها رحالها فيها، مستقرة في مربع الوسط حيث تنتشر في أرجائه ينابيع المياه والعيون، في خضم أرض زراعية خصبة. إن التقاء القوافل فيها وإقامة بعضها لأيام معدودات شجع على خلق ساحة للتبادل التجاري سرعان ما تنامت نحو سوق شعبية عرفت لاحقاً بسوق الإثنين. وكان أول من أتى على ذكرها صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في كتابه “الوافي بالوفيات”، وقد عاش الكاتب بين القرنين 13 و14 الميلاديين.

وبحسب المؤرخ الدكتور عبدالله سعيد، “بالاستناد إلى الطابو تحرير دفتري رقم (TtD686) العثماني، لسنة 1005ه 1596م (صفحة 132-149)، كانت “ناحية شقيف” في إحصاء تلك السنة تضم 11 قرية مأهولة، أكبرها عدداً بالسكان نباطية التحتا (النبطية) 168 ذكراً بالغاً أو نفراً، منهم 125 متزوجاً (خانة) أي رب أسرة (74.4 في المئة)، و41 عازباً مجرداً (24.6 في المئة) وإمام واحد وخطيب واحد، وشخص واحد معفى من الضرائب والرسوم”.

ذاع صيت السوق في العصر العثماني وازداد الإقبال عليها بعد أن أضيفت بضائع جديدة إلى معروضاتها من تجار إيطاليين جلبوها عبر ميناء صيدا.

وقامت سوق الإثنين في النقطة الوسط لمدينة النبطية بين مجموعة تلال تحيط بها من مختلف الاتجاهات، وهي مهدت لقيام مركز تجاري متفرع انتشر حولها وعلى امتداد مئات الأمتار، وكان يضم إلى أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، أسواقاً رديفة، كأسواق الحدادين والنحاسين والأحذية (الكندرجية) و”الغلة” والحبوب والفخاريات والحصر “البابير”، والبالة إلى سوق الخضراوات وسوق الماشية، وأضيفت إليها مطلع القرن 20 سوق القصابين تحت تسمية سوق اللحم.

لكن نجم هذه الأسواق بدأ يأفل مع تراجع الحرف اليدوية التي كانت تقوم عليها تجهيزات البيوت وعدد وآلات العمال والفلاحين والنجارين والحدادين، وكذلك مع الثورة الصناعية الهائلة وحلول المستورد من الأدوات الكهربائية والزجاج والألمنيوم و”الستانلس” ثم هجمة البلاستيك، مما أدى إلى إقفال معظم هذه الأسواق ولم يبقَ منها سوى أسماء يتذكرها المتقدمون في العمر، وسوق القصابين وقد تقلص دورها مع انتشار دكاكين بيع اللحوم في أحياء المدينة وجميع قرى الجوار، أما سوق المواشي فقد انتهت منذ نحو ربع قرن.

سوق الخان حاصبيا

أما “سوق الخان” في حاصبيا، فيرجح عمرها بـ659 عاماً، أي قرابة سبعة قرون، وتقوم على آثار مملوكية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن السوق نشأت على هامش بناء خان كبير (الخان: النزل أو الفندق)، نحو عام 1365 ميلادي، على يد والي منطقة وادي التيم أبوبكر باشا الشهابي، تشجيعاً لمرور قوافل التجار القادمين من أنحاء جبل عامل ومرتفعات العرقوب والبقاع في لبنان، ومنطقة الحولة وصفد والجليل الأعلى في فلسطين، كذلك من سوريا من الناحية الشمالية، على تخوم حاصبيا، إذ أمن لهم الإقامة مع مرابض الخيل والدواب، وشجعهم على عرض حمولة الدواب وتبادلها، مما أسس لفكرة إقامة السوق شيئاً فشيئاً.

تنعقد سوق الخان كل ثلاثاء نهاراً، وتعرف بـ”سوق الثلاثاء” خارج المنطقة المأهولة في حاصبيا وتتبع لها عقارياً، في بقعة كانت تعتبر وسطية بين مثلث لبنان وسوريا وفلسطين، وعلى مسافة كيلومترات قليلة، حيث كانت تشهد على التبادل التجاري حتى بالبضائع، أي مقايضة الرزق بالرزق، والبضاعة بالبضاعة، وأشهرها المواشي والحبوب والفواكه، بين وفود التجار القادمة إليها على الجمال والبغال وغيرها من الدواب، من أنحاء لبنان وسوريا وفلسطين.

أحوال السوق

تراجعت حال سوق الخان وقوتها منذ استيلاء إسرائيل على فلسطين في عام 1948، إذ انقطعت قوافل التجار الفلسطينيين إليها، ثم على الجولان السوري سنة 1967 مما أغلق الحدود السورية إليها، فاقتصر روادها على اللبنانيين المتوافدين من منطقتي حاصبيا ومرجعيون ومن أطراف البقاع الشرقي والغربي.

تقوم السوق اليوم على مساحة 30 دونماً، يقع جزء منها في ما تبقى من أطلال البناء المملوكي الذي رمم بعد عام 2002 بتمويل من مؤسسة “مرسي كور” الأميركية، التي حسنت كذلك السوق وأماكن عرض المنتجات والبضائع بإقامة شرفات على أعمدة يعتمرها القرميد لحماية الرواد من حرارة الشمس صيفاً، ومن الأمطار شتاء، وتقطيع مساحة السوق إلى مربعات ومستطيلات، بحيث ينال كل تاجر مساحة أو أكثر لقاء رسوم مدفوعة إلى بلدية حاصبيا.

على نحو سوق النبطية، طغت البضائع المستوردة على معروضات وبسطات سوق الخان، إنما تتميز هذه السوق بعرض منتجات وحرف يدوية محلية، تصنع وتنتج بين بلدات وقرى حاصبيا ومرجعيون وصولاً إلى البقاع، وهي مناطق ذات طابع زراعي بامتياز، ومنها الصابون والشمع، وأباريق الفخار وأوانيها، إلى المؤن البيتية من ألبان وأجبان وزيت الزيتون وعسل ودبس العنب والخروب. وحافظت السوق على سوق رديفة تقع في جنوبها مكرسة لبيع وشراء المواشي، إذ تتميز قرى حاصبيا الجبلية بوجود مئات القطعان المؤلفة من الأغنام والأبقار والماعز والدواجن.

عاشت سوق الخان والمناطق الحدودية القريبة منها ربع قرن تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وظلت تنعقد كل ثلاثاء ويشارك فيها المئات من التجار والزوار حتى مايو (أيار) عام 2000، حين انفتحت بعد “التحرير” على مختلف المناطق الجنوبية والبقاعية وتعاظم عديد زوارها وتجارها. ويلفت الإعلامي زياد الشوفي من حاصبيا، إلى “أن السوق تأثرت في إبان الأحداث والمعارك الأخيرة، لأنها تقع في منطقة ساخنة أمنياً وعسكرياً قريبة من (العرقوب) ومزارع شبعا وجبل الشيخ، وقد سقطت القذائف قرب السوق، مما سبب توقفها عدة أسابيع، ثم انطلاقها مجدداً، إنما بعدد محدود جداً، خصوصاً بعد نزوح معظم سكان قضاءي مرجعيون وبنت جبيل ومنطقة العرقوب (كفرشوبا وكفرحمام والهبارية)، وانقطاع زوار المناطق الأخرى، من خارج حدود الصراع”.

https://www.independentarabia.com/node/563001/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A8%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%A7%D9%82-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%AD%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%9F

المصدر: كامل جابر – independent عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!