رمضان جنوب لبنان بين الفقر والحرب

صدى وادي التيم – لبنانيات /

لم يكن نزوح عشرات الآلاف من أبناء البلدات والقرى الجنوبية اللبنانية بسبب الحرب الدائرة منذ ستة أشهر وأكثر ودوام هذا النزوح القسري، من ضمن توقعات وأحلام الجنوبيين في استقبال شهر الصيام رمضان لهذا العام.

 حل رمضان بينهم حزيناً مثل حزنهم على ما يحصل في بلداتهم وبيوتهم، وقد لحق الدمار والخراب بالمئات منها، فضلاً عن سقوط مواطنين قتلى، وهذا التهجير الجماعي، وفقدانه حيزاً أساساً من غايته في لمّ شمل العائلات وجمع أفرادها على موائد الإفطار والسحور، بعد نهارات طويلة من الصيام وما ستحمله أمسياته ولياليه من مباهج اللقاء والدعاء ومهرجانات الفرح التي تواكبه في المساجد والساحات العامة والمطاعم.

انكفأت معظم النشاطات العامة والخاصة التي تترافق عادة وأيام الشهر ولياليه، لا سيما في المدن الجنوبية الرئيسة الواقعة خارج النطاق المباشر للحرب مثل صيدا والنبطية وصور، فيما تنام بنت جبيل والخيام وجاراتها على ظلام دامس وشوارع خالية وبيوت هجرها أصحابها إنقاذاً لأرواحهم وأبنائهم، فتوزعوا في مدن وبلدات أخرى ومراكز إيواء متعددة، مما أسهم في تفرق شمل العائلات والجيران، وشمل العائلة الواحدة أحياناً كثيرة.

مهرجانات محدودة

في عاصمة الجنوب صيدا ذات الأكثرية الإسلامية السنية “تراجعت النشاطات التي كانت تتواءم مع ليالي الشهر في أحيائها القديمة وساحاتها المتعددة وحتى في شوارعها، إلى ما دون الـ60 في المئة”، بحسب الإعلامي أحمد الغربي الذي يؤكد أن الأسباب الدافعة إلى هذا التراجع ما يحصل على الحدود الجنوبية من دمار وسقوط للقتلى ونزوح الناس وحلّت عشرات العائلات في صيدا وجوارها، وكذلك ما يحدث في غزة، خصوصاً أن مدينة صيدا تضم أكبر تجمع فلسطيني في لبنان، ومن الطبيعي أن تتأثر أجواء الفلسطينيين بما يحصل في وطنهم الأم، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الذي يلقي بتبعاته على الناس منذ أعوام عدة. كلها عوامل حدت من بهجة رمضان التي تشتهر بإحيائها مدينة صيدا في كل عام من احتفالات ولقاءات ومهرجانات”.

لا ينفي الغربي مجموعة من النشاطات الفنية التي أقيمت في “خان الإفرنج” التاريخي و”قصر دبانة” التراثي في صيدا القديمة ووسطها التراثي، وستقام نشاطات مشابهة في بعض الساحات المعروفة في المدينة بحسب برامج بعض الجمعيات المعلنة، لكنها ومقارنة بالأعوام السابقة لا تتجاوز الـ30 في المئة لأن الفرح يحتاج إلى مقوماته وفي طليعتها أن يكون بال الناس مرتاحاً”.

النبطية تضيء فانوسها ومتاجرها

بعد أسبوع على بدء شهر رمضان، أطلقت بلدية النبطية متعاونة مع الفاعليات التجارية والجمعيات شهراً للتسوق “أردناه في هذه الأيام كي نخرج المدينة قليلاً من الحزن الذي حل بها نتيجة الغارات الإسرائيلية التي طاولتها، ومن حزن الناس على ما يجري في المناطق الجنوبية الأخرى، خصوصاً أن النبطية تؤوي في بيوتها وشققها عشرات العائلات التي نزحت من هذه المناطق، وكذلك من حزن الناس وقلقهم على ما يجري في غزة وفلسطين”، والكلام لعضو المجلس البلدي في النبطية صادق إسماعيل.

يؤكد إسماعيل أن “ما نفعله هو تحدٍّ للواقع المرير للناس بعد ستة أشهر من الحرب والنزوح، ونحاول أن نعوض بعض الغم والأسى، فدعونا جمعيات التجار في المدينة وفاعلياتها إلى أن تسهم في إخراج الناس مما هم فيه ولو بالحد الأدنى، وطلبنا منهم فتح المتاجر ليلاً وخفض الأسعار بنسب مقبولة كي يخرج الناس من بيوتهم إلى الأماكن العامة واللقاء، وأكثر من ذلك جمعنا كميات كبيرة من الهدايا والجوائز التي سيربحها رواد المتاجر، ومن ضمنها سيارة مرسيدس قدمها أصحاب المؤسسات التجارية، ما من شأنه أن يساعد في إحياء وسط المدينة وأسواقها”.

تمهيداً لهذه الإجراءات في النبطية، أضاءت الهيئات المحلية والاقتصادية في المدينة “فانوس” رمضان العملاق في الشارع العام أمام باحة السرايا الحكومية، “بعد أكثر من أربع سنوات على عدم إضاءته، كما كان يحصل في كل رمضان منذ 15 عاماً، بسبب الانهيار الاقتصادي من جهة وجائحة كورونا وما سببته من تباعد الأفراد عن بعضهم بعضاً، ونتمنى أن يكون نور فانوس رمضان جامعاً للجميع وأن يأتي آخر الشهر وقد انتهت الحرب وعم الفرح واللقاء بيوت الناس”، يقول رئيس الجمعية التعاونية التجارية في مدينة النبطية محمد جابر.

يتحدث صاحب أكبر مطعم في النبطية حسين حمادي عن أن الأسبوع الأول من رمضان، “لم يكُن كما في سابق عهده، إذ تراجعت حجوزات الزبائن للإفطارات والسحور نحو 40 في المئة بل أكثر، بينما لم نسجل حجزاً لأي إفطار جماعي كانت تقوم به البلديات والجمعيات والهيئات المختلفة، إما لجمع التبرعات أو لتكريم قطاعات معينة مثل معلمي المدارس وغيرهم، وصودف عيد المعلم مع انطلاقة شهر الصوم، والأرجح تفادياً للتجمعات وخشية الوضع الأمني وتفاقمه”.

مطاعم الجنوب نموذج الخسارة

لا يحمل حمادي الأوضاع الاقتصادية والمالية فقط السبب في اعتكاف الناس عن الإفطارات العائلية والجماعية والسهرات التي تليها، “والدليل على ذلك أن المطاعم في بيروت لا أماكن خالية فيها. هنا يقوم الخوف والقلق بالدور الأساس في انكفاء الناس، خصوصاً أننا على تماس مع المناطق التي تتعرض للقصف الإسرائيلي، ونسمع دوي قذائفه وقنابله واضحاً إلى النبطية، حتى لو كان القصف بعيداً نوعاً ما، ففي حسابات الناس أن بيوتها أكثر أمناً من الأماكن العامة، لا سيما أن زبائننا ليسوا من النبطية فحسب، بل من بلدات وقرى القضاء والجوار”.

ويؤكد أن الخسائر “واقعة لا محالة، فأنا لم أصرف موظفاً حتى بسبب الأوضاع الاقتصادية التي مررنا بها، وعندنا تشغيل يومي جاء الناس أو لم يأتوا، للكهرباء للإضاءة ورواتب الموظفين آخر الشهر. هذه الأوضاع تعود لأربعة أعوام مضت، منذ الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا، ثم جاءت الحرب الدائرة من نصف سنة لتجعلها في حدود الصفر، وتطيح شغلنا وتقضي عليه. كنا عادة ننتظر شهر رمضان بفارغ الصبر لنعوض بعض الخسائر، لكن بتنا نعاني أزمة اقتصادية صعبة منذ اندلاع الحرب، مما دعانا إلى إقفال فرعنا في سهل الميذنة الذي يبعد خمسة كيلومرات من النبطية”.

كان إفطار الفرد الواحد بحسب حمادي 20 دولاراً في رمضان العام الماضي، “اليوم جعلناه 18 دولاراً ولا يتجاوز 23 دولاراً في حده الأقصى، بسبب الأوضاع الراهنة ولتشجيع الناس، لكن في بيروت قد يصل إفطار الفرد إلى 40 دولاراً وأكثر، والناس ترتاد المطاعم، فلا حرب هناك تخيفهم”.

مأسوية مراكز الإيواء

يقول المهندس طارق مزرعاني النازح من حولا إلى كفررمان جارة النبطية “ليست مراكز الإيواء بيوتاً تجمع العائلة وتلمها حول مائدة رمضان بقدر ما هي ملاجئ بعيدة من خطوط النار، وهذه المراكز ستفقد معناها لو توسعت دوائر الخطر، بل ربما تصبح أكثر خطراً على الجماعة، خصوصاً أنها غير محصنة أو مجهزة لتكون ملاجئ. أما أوضاع الناس فيها، فهي مأسوية تشبه بعضها، ولن يقيم مائدة إفطار جماعية أو حتى عائلية من ينتظر المساعدات الغذائية من هنا أو هناك، وهي لا تتضمن المواد اللازمة التي يحتاج إليها الصائم مثل الخضراوات والحشائش والحلويات واللحوم وغيرها، إنه أقسى ما مر على أبناء الجنوب من صيام، منذ أعوام بعيدة”.

ويشير مزرعاني إلى أن “البيوت في القرى الحدودية التي تتعرض اليوم لكل أنواع القصف والتدمير، بيوت مفتوحة ليست لأفراد العائلة فحسب، بل لكل الأصدقاء والجيران، خصوصاً في شهر رمضان، فأعمال الشهر وقوانينه الدينية والأخلاقية تشجع على تكاتف العائلة والتعاضد، فكيف سيكتمل الصوم والعائلات متفرقة في أكثر من دار ومركز إيواء؟”.

ويضيف أن “القرى والبلدات الجنوبية ذات طابع زراعي، وأهلها معظمهم مزارعون، والناس فيها تزرع خضراواتها في حاكورة البيت والحقول المجاورة، فهي ليست مضطرة إلى شراء الخسة الواحدة بأكثر من 100 ألف ليرة مثلاً أو البقدونس أو البصل الأخضر، ليكتمل عقد صحن الفتوش، من أين لهم اليوم هذا الأمر في رمضانهم وصيامهم وهم نازحون ومهجرون منذ ستة أشهر ومن دون أشغال وأعمال؟”.

كامل جابر – اندبندنت عربية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!