بلدات ومدن أشباح في جنوب لبنان… فهل فرضت إسرائيل المنطقة العازلة؟
صدى وادي التيم-لبنانيات/
لم يكن أحد يتوقع أن يطول أمد الحرب خمسة أشهر متتالية، مفتوحة على المزيد، ليس في جهة غزة الفلسطينية – الإسرائيلية، ولا في الجهة اللبنانية – الإسرائيلية، التي دخلت على خط المواجهة في اليوم التالي لما يجري في غزة، في الثامن من نوفمبر (تشرين الأول) 2023. وقد سببت هذه الحرب المفتوحة من الجهة اللبنانية الجنوبية وبعد تفاقم الوضع الأمني وسقوط ما يسمى “قواعد الاشتباك”، وقوع ضحايا مدنيين في عديد من البلدات الحدودية، وحتى الداخلية، ونزوح تجاوز الـ90 في المئة، بدأ في المرحلة الأولى بنحو 45 ألف نازح، ثم تجاوز في مرحلة التصعيد الكبيرة 76 ألفاً بحسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة في مطلع السنة الجارية، 2024.
لم تعد أحياؤنا آمنة
“لم تعد أحياؤنا وبيوتنا آمنة” قالها سهاد علي قطيش من حولا، وهو يتلقى نبأ سقوط صديقه المزارع حسن علي قاسم حسين، جراء الغارة الإسرائيلية الأخيرة مساء 5 مارس (آذار) الجاري، على منزله في شمال بلدة حولا الحدودية، ما أدى إلى مقتله مع زوجته رويدا مصطفى وابنهما البكر علي، وقد استمرت عمليات البحث عن جثثهم طوال الليل حتى تم العثور عليها في الفجر في أسفل الوادي القريب، بينما نجا قاسم شقيق علي، إذ كان خارج بيت ذويه، وحصلت الغارة بينما كان عائداً إليهم.
لم يغادر حسن حسين بيته قرب مقبرة بلدة حولا منذ بداية المناوشات والمعارك بين مسلحي “حزب الله” والجيش الإسرائيلي في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ يملك جراراً زراعياً يحرث ما تيسر له من حقول قريبة وخمس بقرات يرعاها في الجوار، على الرغم من القصف المستمر، مع أن عائلات كثيرة نزحت من بلدة حولا تباعاً، لا سيما في أعقاب تكثيف غارات الطائرات الحربية والمسيرات على البلدة وأحيائها، ولم يبق من أهالي حولا فيها إلا نحو خمسة في المئة أو أقل، أي قرابة 200 فرد يتوزعون على نحو 25 عائلة.
يقول سهاد قطيش “إن صديقي أبو علي حسين كان رجلاً مسالماً يهتم بشؤون الضيعة مع ثلة من رفاقه ممن لم يرحلوا عنها بسبب القصف المستمر، ويقومون بإطعام الطيور والحيوانات والمواشي التي تركها أصحابها وغادروا البلدة خوفاً وعلى عجل، ويقوم كذلك بحفر القبور لوحده ويساعد في دفن الموتى أو من سقطوا من أبناء البلدة في القصف الذي تتعرض له منذ خمسة أشهر تقريباً، وكان يعتقد أن القصف لن يطاله وعائلته ظناً منه أن اهداف الطائرات تتركز على المواقع الحزبية”.
عائلات تختبئ في قراها
لم تغادر عائلات جنوبية عديدة بيوتها، ليس في حولا فحسب، بل في معظم البلدات الواقعة على خط نار المواجهات، وتتعرض لقصف شبه يومي من الطائرات الحربية الإسرائيلية والمدفعية الثقيلة، من أعالي كفرشوبا قرب مزارع شبعا، ونزولاً إلى الخيام وكفركلا والعديسة وحولا وميس الجبل وبليدا وعيترون ومارون الراس وبنت جبيل ثم غرباً نحو عيتا الشعب وعلما الشعب والظهيرة والناقورة الساحلية، وبينها مجموعة من البلدات التي تعتبر في الخط الثاني أو الموازي، لكن ذلك لا يعني أن الحياة تدب بوجودهم في الأحياء والطرقات، بل هم في حالة اختباء دائم خوفاً من المسيرات التي تطال السيارات العابرة على طرقاتها الرئيسة أو بعض طرقات الداخل، ولا يتنقلون إلا في حالات الضرورة، لذلك تحولت البلدات الحدودية في خطوط المواجهة إلى ما يشبه مدن أشباح لا تسمع فيها إلا أصوات العصافير أو الدواجن التي تركها أصحابه.
يجزم رئيس بلدية حولا شكيب قطيش “أن ما تقوم به إسرائيل ليس جديداً علينا والتاريخ يشهد عليها، فحولا تتعرض للقصف والتدمير منذ العام 1948، يوم ارتكب الإسرائيليون فيها مذبحة راح ضحيتها نحو 70 رجلاً وشاباً بعد جمعهم في منزلين وتدميرهما عليهم، فقضوا جميعهم”.
ويرجح رئيس البلدية ما تقوم به إسرائيل “من تدمير البيوت، حتى تلك المهجورة من أصحابها بسبب القصف، يأتي كرد فعل على نزوح المستوطنين من المستعمرات الإسرائيلية القريبة من الحدود، كمسكاف عام وكريات شمونة والمنارة ومرغليوت القريبة من حولا والعديسة، وأرادت إفراغ القرى اللبنانية من سكانها انتقاماً لسكان المستعمرات، لذلك تقوم باستهداف المدنيين كي ينزحوا عن بيوتهم وأملاكهم الزراعية في حولا وغير حولا بغية جعلها قرى فارغة”.
إنشاء منطقة عازلة؟
لا يستبعد قطيش “نية إسرائيل في قصفها حولا والقرى الحدودية، إنشاء منطقة عازلة بين حدودها وجنوب نهر الليطاني، وهي أعلنت هذا الأمر أكثر من مرة وقبل القصف المتكرر يومياً، إن طُبق القرار 1701 أو لم يطبق، وهي تسعى إلى خلق مساحة فارغة أو منطقة عازلة وهذا ما يبرر التدمير العشوائي للأبنية في المناطق الحدودية الذي باتت تعتمده أخيراً”.
وعن الحياة اليومية في حولا، يؤكد قطيش “أن حولا اليوم شبه خالية، ومن بقي فيها لا يتجاوز عديدهم 20 أو 25 عائلة بعدما نزح أكثر من 90 في المئة من السكان القاطنين فيها صيفاً وشتاء، ولا يتحرك هؤلاء لا ليلاً ولا نهاراً، ومن يتحرك فللضرورة القصوى. الشوارع فارغة خالية تماماً من حركة الناس، ومن يستهدف من المقيمين ففي بيوتهم، على نحو ما جرى منذ يومين”.
ويشير رئيس بلدية كفركلا حسن شيت إلى “أن هناك سياسة إسرائيلية من وراء استهدافها اليومي المباني السكينة في كفركلا وغير كفركلا، أولاً هي سياسة عدوانية ليست غريبة تمارسها علينا إسرائيل منذ أمد بعيد، وثانياً جعلتنا هدفاً مقابل إفراغ المستوطنات، إذ إن خلو المستوطنات عندها يجب أن يقابله خلو عندنا”.
ويؤكد شيت “أن 90 في المئة من المباني التي تعرضت للقصف والتدمير هي مبان خالية من السكان، و10 في المئة كان أصحابها فيها وليس أحد آخر. وكفركلا أول بلدة دشن فيها الإسرائيليون غارات الطيران الحربي على الأحياء السكنية فيها، ثم توالت هذه الغارات وبشكل شبه يومي، حتى دمرت أكثر من 23 مبنى، تتألف من أكثر من 50 وحدة سكنية”.
ويتابع شيت: “هذا القصف المتكرر جعل سكان كفركلا ينزحون عنها إلى خارج المنطقة ومن بقي فيها لا يشكلون أكثر من ثلاثة في المئة، يلتزمون بيوتهم ولا يتحركون إلا في أوقات الضرورة الشديدة، ومن يقصد البلدة، إن استطاع، سيجد شوارعها خالية من البشر والحيوانات ويظنها مهجورة”.
ومنذ خمسة أشهر من المناوشات والقصف، سقط في كفركلا جراء القصف والغارات الإسرائيلية 11 مواطناً من أبنائها، بينهم امرأة مسنة عمرها 80 سنة.
في التحليل العسكري والميداني
في توصيفه لما يجري من قصف “منهجي” للبيوت والمنازل المأهولة أو الخالية في البلدات الحدودية الجنوبية يضع العميد الركن المتقاعد خليل الحلو مجموعة من الملاحظات تحت عنوان “لنتطلع بالمنظار الكبير”.
فهو يلاحظ أولاً: “إن مسلحي (حزب الله)، ممن يسقطون ويعلن عنهم، هم جميعهم من الجنوب، ما يعني أنهم من سكان المنطقة، وهذه خطوة إيجابية بالنسبة للحزب توفر عليه أعباء لوجستية، وليس مضطراً إلى نقل عناصر من البقاع وبيروت وغيرها إلى الجنوب، عدا عن أن العنصر المقيم في بيته لا يكلف كالذي تأتي به من بعيد، ما يعني أن الشباب المنتشرين في هذه القرى هم من سكانها ومن سكان منازلها”.
ويتابع ثانياً: “إن مراكز (حزب الله) في الجنوب غير منظورة، وعنده مراكز قتالية مموهة ومعدة سابقاً، ما يسهل الدخول إليها والخروج منها واستعمالها بسرعة”.
وثالثاً بحسب العميد الحلو: “بعد خمسة أشهر من القتال، من المؤكد أن المخزون اللوجستي للحزب في الجنوب، إن كان بالذخيرة أو السلاح والمواد الحياتية من أكل وشرب وطبابة متوافرة بالكامل، وإلا كيف سيستمر كل هذه المدة ولم تسجل أي ملاحظة لنقل معدات من باقي المناطق اللبنانية إلى المناطق المقصوفة في الجنوب، وهذا ما يخفف من الاستهدافات الإسرائيلية ومن المراقبة”.
ورابعاً: “كما (حماس) اعتمدت مسألة الأنفاق، فـ (حزب الله) اعتمدها من قبل، في مواجهات 2006، ومداخل هذه الأنفاق يحتمل أن تكون في البيوت أو قريبة منها”.
لائحة أهداف محتملة
أما من الناحية الإسرائيلية فيلاحظ العميد الحلو “أنها (أولاً) كانت في المرحلة الأولى من الحرب تقوم بالرد على صواريخ الحزب المساندة لغزة. وبمرحلة أخرى، وهذه بدأنا نلمسها في آخر نوفمبر أخذ الإسرائيليون المبادرة، ولم يعودوا ينتظرون الحزب كي يرمي عليهم أو يطلق باتجاههم الصواريخ، فصارت لديهم لائحة أهداف يقومون بالإغارة عليها”.
وبغياب معلومات محايدة، إذ إن الحزب لا يعلن إلا عن خسائره البشرية ويتكتم على خسائره اللوجستية، وهكذا يفعل الإسرائيليون، يتابع الحلو: “فمن المحتمل جداً أن إسرائيل تقوم باستهداف ما تعتبره مراكز مموهة للحزب، وليس بالضرورة أن يكون فيها أحد، إذ إن الحزب يحضر مراكز رماية مسبقة ويضع فيها حتى قواعد صواريخ وليس من الضروري أن يكون معها أحد، يعني أن عناصره يرمون ويغادرونها بسرعة، لذلك عندما يرد الإسرائيليون مباشرة نرى أن الخسائر عند الحزب في هذه الحالة تكون محدودة”.
أما ثانياً برأي العميد الحلو “إذا كان ثمة حديث عن عمل بري واسع معناها أن المسالك التي يعتبرها الإسرائيليون معروفة وقد استخدموها في اجتياح العام 1982 وفي 2006، وقبلهم الإنجليز في 1941، وقبلهم كذلك الإنجليز عندما دخلوا العام 1918، كل هذه بحدود 60 إلى 70 كيلومتراً ومسالك التقدم من خلالها لا تتجاوز ثلاثة مسالك، وهي تُستهدف بشكل واضح في الناقورة ووادي السلوقي ووادي الحجير وعيترون، إنها مسالك تقدم محتمل في حال قرروا القيام بعمل بري في لبنان، وكلامي هذا من الناحية العسكرية”.
منطقة غير قابلة للحياة
ويستدرك ثالثاً: “أكيد أن إسرائيل لا تتصرف فقط وفق الناحية العسكرية، فعندها أهداف كبرى لا تعلن عنها، تماماً مثلما يحصل في غزة. التدمير في جنوب لبنان لم تستطع أي وسيلة إعلامية تقديره، وهناك أحاديث من وزراء في الحكومة اللبنانية عن أن هناك نحو 500 بيت مهدم، وأن نحو 60 قرية أضحت شبه خالية من سكانها. وإذا ما طرحت السؤال: هل تستهدف إسرائيل بشكل ممنهج البيوت حتى تجعل منطقة الجنوب غير قابلة للحياة؟ أقول: هذا ممكن جداً وأكيد”.
ويجد العميد الحلو عاملاً إضافياً لما تقوم به إسرائيل من استهداف المنازل السكنية الحدودية، يتمثل في “أن الذخيرة الجوية التي يستخدمها الإسرائيليون تتراوح أوزانها بين 250 و500 وألف كيلوغرام، وميزانيتها ليست سهلة. إذا كانت ثمة نوايا من هذا القبيل، هناك مخزون ذخيرة لم يعد نافعاً ويستخدمونه على أهداف سهلة تطلق بالمدفعية من داخل إسرائيل ولا حاجة للطيران في استخدامها، وتسقط على قرى مثل مارون الراس وعيترون وعلما الشعب والناقورة وغيرها، ويمكن استغلال هذه الذخيرة ضمن أهداف لإفراغ هذه القرى المتاخمة للحدود”.
وفي الأهداف المحتملة يضيف: “إذا كنت تريد أن تطلب من (حزب الله) مغادرة الجنوب، كيف سيتم ذلك وبيته هناك؟ وهذا ما يجعل هدف إسرائيل قائماً من خلال ما نراه من استهدافات للبيوت الخالية والمأهولة وربما تسعى إسرائيل من منظارها إلى أن ترتاح على الأقل 15 سنة قادمة. لا يمكن تبرئة الإسرائيليين من أي أهداف أخرى لما يقومون به، ومن الممكن أن يكونوا في صدد دفع الناس إلى إخلاء قراهم بالكامل”.
المصدر: independent عربية