عندما يصبح كل اللبنانيين محللين وخبراء استراتيجيين

صدى وادي التيم-لبنانيات/

تعم لبنان ظاهرة انخراط الشعب في التحليل السياسي والأمني والاقتصادي وحتى الاستراتيجي، ويزيد من وتيرتها استضافة الشاشات اللبنانية والعربية والمواقع الإلكترونية، في أعقاب كل حدث أمني أو سياسي طارئ أو متصاعد، لا سيما بعد الحرب الدائرة على الحدود الجنوبية بين “حزب الله” وإسرائيل، وجوهاً مختلفة تمعن في التحليل والتقدير، فترفع مرة من وتيرة التصعيد ودرجاته، وتخفف مرة من تعاظمه وفاعليته، وخلفهم يردد الجميع لا سيما بعدما أصبحوا من خلال هواتفهم الذكية خبراء ومحللين.

لا يمكن أن تسأل لبنانياً عن رأيه في الأحداث الجارية ويرد عليك أن لا شأن له في ذلك، أو أنه لا يعرف، إنها ظاهرة لافتة باتت ميزة في حياة كل لبناني، مثل الطعام والشراب، وطبعاً ليس خارج اصطفافات اللبنانيين الحزبية والسياسية والطائفية والمذهبية.

في بلدة الغازية جنوب مدينة صيدا لم يكد دخان غارة المسيرات الحربية الإسرائيلية التي وقعت على طرفيها الجنوبي والشمالي في الـ19 من فبراير (شباط) الماضي يتصاعد، حتى بدأت تنهال الصور والفيديوهات والرسائل الصوتية عبر الهواتف المحمولة من كل حدب وصوب، ثم يعاد بثها إلى كل قريب أو بعيد، وهي تحدد موقع الغارة وعدد الصواريخ التي أطلقت ونوعها والخسائر التي وقعت، وكان مجمل ما تحمله هذه الرسائل خائباً وغير دقيق لجهة التحديد والترجيح والتحليل وحتى الخسائر المترتبة، وبدلاً من انصرافهم مع عائلاتهم للبحث عن أماكن آمنة والركون إليها، تجدهم يسارعون إلى مكان الحدث لنقل وقائعه بالصوت والصورة.

هوس إعلامي

هكذا هم أكثر اللبنانيين، يتحولون مع كل حدث طارئ أو خبر أمني أو سياسي، إلى مراسلين ومصورين ومحللين وخبراء من دون التريث للتأكد من فحوى ما ينقلونه، وإن كان صحيحاً أو صائباً أو موثوق المصدر أم لا، وكذلك ناقله وناشره، حتى لو لم تكن لهم أدنى علاقة به، من قريب أو بعيد.

يكفي أن يقع أي أمر حتى لو لم يكن أمنياً، كحادثة سير مثلاً، فسرعان ما يصل بث مصور ومرفق برسالة تحكي عن الحادثة والإصابات ونوعيتها والتقييم الطبي للمصابين، ففي حي السلم من ضاحية بيروت الجنوبية، وقع في الـ25 من يناير (كانون الثاني) الماضي خلاف بين شخصين وتطور إلى تبادل إطلاق نار، فشاهد اللبنانيون هذه الحادثة بداية من لحظة وقوعها حتى مقتل أحد الشخصين مطلقي النيران من مسدسات حربية، بعدما صورته سيدة كانت تتحدث إلى زميلتها على شرفة مقابلة، فانتشر الفيديو المترافق مع صوتيهما وصراخهما لحظة سقوط القتيل.

استنفار الأحاسيس

يتحدث الطبيب النفسي أحمد عياش عن هذه الظاهرة قائلاً “أي إنسان يعيش في بلد مثل لبنان يغدو محللاً وخبيراً في شؤون مختلفة، ليس في زمن الحرب فحسب، إنما في زمن مأساة ما أو مصيبة أو فاجعة، فيستنفر كل أحاسيسه وكل قدراته الذهنية دفاعاً عن الذات ودرءاً لهول الكارثة”.

ويضيف عياش “عند الاستنفار النفسي ينشط تهيب الإنسان للأحداث، مما يجعله في أمس الحاجة إلى تنفيس طاقات التوتر، وهذا لا يحصل إلا باللغة أو بالإشارة، أما في ما يخص الإشارات، فمنها ارتداء الأسود ورايات الحداد، وفي اللغة يكون بالتعبير الشفهي ويأتي إما على شكل صراخ أو بعبارات تتناسب مع الحدث، لذلك يطلق كل متوتر رأيه ما دام لا محاسبة ولا مراقبة على الكلام”.

ويشير الطبيب إلى أن “التقنيات الحديثة حولت كل مواطن لبناني إلى مصور مباشر ومخرج، وحتى إلى معلق على الحدث عبر هاتفه، إذ اكتشف المواطن أنه بهاتفه أصبح مراسلاً لكل الأصحاب ثم إلى كل الناس، وهكذا صار كل من يجيد اللغة كاتباً، وكل من يجيد الفكاهة معلقاً ساخراً، وكل من يعرف كلمتين عن الرصاص متخصصاً في الشأن العسكري، وكل من أدمن مشاهدة الأفلام وقراءة الصحف متخصصاً استراتيجياً”.

وعن دور الجماعات والأحزاب في بث الأخبار والإشاعات والتحليلات السياسية والأمنية التي تزيد من شهية المواطنين العاديين إلى الانخراط بها واللعب على أوتارها أضاف عياش “نجح البعض في الكواليس أكثر ممن اختارتهم أحزابهم أو جماعاتهم ليكونوا أبواقاً إعلامية أو متخصصي تجميل لأتعس المواقف وأبشع المشاهد، لكن لا يمكن الاستخفاف بالتوتر العارم الفردي أو الجماعي، لأن الاستنفار النفسي إذا توافرت له بعض إمكانات التعبير، بإمكانه أن يقدم للآخرين ما يدهشهم، وفي الوقت نفسه بإمكانه أن يقدم ما يفضحه، لأن أسوأ الأشخاص أولئك الذين يظنون أنهم بسخافاتهم وتفاهاتهم أقنعوا الجمهور”.

شعب مسيس

وفي السياق، قال القائد السابق لكلية القيادة والأركان في الجيش اللبناني محمد عباس إن “الشعب اللبناني أكثر شعب مسيس بغض النظر عن الانقسام الطائفي والمذهبي والتباعد بالأفكار وانعدام الأولويات عنده، بكل فئاته ومستوياته، فلكل واحد طائفته ووطنه الخاص والمتخيل، ونتيجة هذه الصراعات أضحى اللبناني ضليعاً في التحليل والتوقعات”، مضيفاً أنه إذا ذهبت إلى الولايات المتحدة وسألت رئيسها عن أمر ما فيرد ويقول “لا أعرف”، لكن في لبنان لن تجد من يقول إنه لا يدري.

ويضيف عباس “الوضع في لبنان استثنائي لأن الشعب كله مسيس، حتى إنه في جلسة (النرجيلة) العادية والمتواضعة يناقشون السياسة والاقتصاد ويعلو الصراخ، ودائماً هناك انقسام على كل شيء، وكل يوم ثمة موضوع للتداول بين الناس، ساعة للرواتب وأخرى لسرقة الأموال أو للودائع أو الانقسام الطائفي حول الصلاحيات، ثم يأتي القصف الإسرائيلي أو الاشتباكات الداخلية وحركة الإرهاب”.

وعن دور المحللين السياسيين والمتخصصين العسكريين والاستراتيجيين الذين يتزايدون في فترات الحرب والحوادث الكبيرة عبر شاشات التلفزة والمواقع الإلكترونية في دفع المواطنين نحو التحليل وترديد الأفكار، يقول عباس “منذ عقدين ويزيد تتناسل الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان والمنطقة والعالم، وعليه فإن محطات التلفزة والمواقع الإعلامية سواء في لبنان أو خارجه تستضيف محللين وباحثين أو خبراء ويطلقون عليهم ألقاباً غالباً لا تتواءم ولا تتناسب مع كثير من الضيوف وقدراتهم وإن استحقها البعض منهم، لكن المسؤولية هنا ليست على الضيف وإنما على القنوات والمواقع”.

شغف الشاشة

وتابع المسؤول العسكري السابق “في لبنان تحديداً، هناك شغف مبالغ فيه عند اللبنانيين بالصورة والشاشة، ويحق لأي كان وخصوصاً لذوي الاختصاص بغض النظر عن قدراتهم، الظهور الإعلامي، لا سيما إذا كانت الوسيلة الإعلامية هي من تطلبهم، لكن التقدير وعدمه يعود إلى الجمهور والمتابعين والمشاهدين”.

ولفت عباس إلى الانقسام السياسي بأبعاده الطائفية والمذهبية والحزبية وحتى على صعيد الأولويات بين اللبنانيين، فتضيع الهوامش والفواصل والتقدير الموضوعي، لذلك نرى محطات لبنانية وعربية تستضيف أفراداً لا تاريخ لهم ولا حيثيات أكاديمية، فقط لأنهم يؤدون رسالة معينة، مثل سب الضيوف والتهكم عليهم، حتى إن بعض الخبراء يقدمون التحليل وفق مصالحهم وأهوائهم السياسية.

واستطرد المتحدث قوله “لن ننسى كيف أن اقتصاديين كباراً استماتوا في الدفاع عن حاكم مصرف لبنان مثلاً لمصالح شخصية وغدروا باللبنانيين عندما كانوا يقولون لهم إن الليرة بألف خير والاقتصاد متين. وآخرون يزوِّرون الوقائع للوصول إلى استنتاجات مغايرة للحقيقة خدمة لأهدافهم ومصالحهم الخاصة، والأمر مباح ويتشارك به الجميع ما دام هذا الصراع الحزبي والطائفي موجوداً من دون محاسبة أو منع”.

وأوضح أن لبنان “لم يكن بلداً مرتاحاً وحتى قبل الاستقلال، لكن تمر أحياناً فترات هدوء ورفاه وثراء خادعة، على نحو الفترة التي تلت عودة الرئيس رفيق الحريري، وصارت الناس تتقاضى رواتب خيالية تراوح ما بين 3 و5 آلاف دولار، ثم انهار كل شيء فجأة”، مشيراً إلى أن هناك “أكشن” ومشكلات موجودة دائماً، داخلية ذات طابع حزبي مرة، أو طائفية مرة ثانية، أو مذهبية مرة ثالثة، وكل طرف يسعى إلى حشد مؤيدين داعمين وتحالفات داخلية”.

أزمات متعددة

وحول ارتفاع حماسة اللبنانيين وقت الحروب، يضيف المتحدث “في 1943 لم تكن هناك حرب، والبلد كان مثل اليوم، لأن النظام ولاد للأزمات والناس جزء أساس منها، فتروج لها وتحلل فيها، وتردد ما يقوله المسؤولون والقياديون، وعندما تقع الحرب هم ذاتهم يصبحون محللين عسكريين وأمنيين، وتترافق تحليلاتهم وتوقعاتهم اليوم مع فيديوهات يصورونها بأنفسهم”.

ثمة ألقاب توزع على المحللين على شاشات التلفزة وخلف المواقع الإلكترونية، مرة نجد محللاً عسكرياً، وأخرى استراتيجياً ومرات سياسياً، بعضهم إعلاميون أو جامعيون أو حتى متقاعدون عسكريون، وقد يكون بعضهم ناشطين أو مدنيين أو اجتماعيين، ومنهم من جرب حظه مرة في رسالة مسجلة ومصورة عن تقديره للوضع القائم، وإذ به بات يقفز من شاشة إلى أخرى، ويكون في طليعة المحللين لحظة وقوع حدث ما أو ربما معركة أو انفجار.

يرى القائد السابق لكلية القيادة والأركان في الجيش اللبناني أنه “ربما تتصل أي محطة بمتخصص في الشأن الاقتصادي وتستضيفه، فيحلل حول الوضع الاقتصادي، لكن الجمهور هو من يقرر إذا كان يملك المقدرة أو الكاريزما أو الطلة، وأنه على بينة أو أنه لا يفقه التحليل، وأجزم أنه من حق كل واحد أن يأخذ دوره، لكن هناك من يزور بالصفة التي يمنحها لنفسه، إذ لا يحق للعسكري أن يدعي أنه متخصص في الشأن الاستراتيجي ما لم يكن منخرطاً في الاستراتيجيات أو خاضعاً لدراستها، كما لا يحق للمدني ادعاء ذلك ما لم يكن ضابطاً متقاعداً خاضعاً للركن”، مشيراً إلى أن بعض الإعلاميين يعتمدون على معلومة من هنا أو هناك، لكنهم أبداً ليسوا محللين عسكريين أو استراتيجيين، حتى لو أمضى بعضهم فترة ما في حزب سياسي.

المصدر: كامل جابر -independent عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!