منذ عقود وعين إسرائيل مسلطة على المياه اللبنانية
صدى وادي التيم – لبنانيات /
“إن حاجة إسرائيل الماسة إلى مزيد من المياه حقيقة ثابتة”، هذا ما يؤكده المؤرخ اللبناني عصام كمال خليفة في كتابه “لبنان الحدود والمياه” الذي يعود إلى الوثائق التاريخية ليشير إلى أن “إسرائيل تطمع بالتوسع شمالاً على حساب لبنان بسبب رئيس هو السيطرة على المياه”، لافتاً إلى وجود مجموعة من مصادر المياه على غرار نهر الحاصباني – الوزاني الذي ينبع من جنوب لبنان ويخترق الحدود إلى فلسطين، ويعد أحد الروافد الأربعة لنهر الأردن، ونهر الدردارة وثلوج حرمون التي تشكل “مجال نزاع محتمل يجب استدراكه بموازاة حل قضية الحدود”.
يستعرض عصام خليفة سلسلة من المعطيات المائية التي يجب الوقوف عندها لصياغة حل عادل، فلبنان يحتاج إلى ري خمسة آلاف هكتار في حوض الحاصباني ومحيطه، فيما تقدر المساحة المروية حالياً بـ493 هكتاراً، جازماً “نحن في حاجة إلى 50 مليون متر مكعب للري، بدلاً من 6 ملايين متر مكعب نستعملها حالياً”. من ناحية أخرى يحتاج لبنان إلى كميات إضافية من المياه للشرب، ذلك أن هناك 86 قرية وبلدة في حوض الحاصباني – الوزاني والجوار، ويتوقع أن يرتفع عدد سكان المنطقة إلى 200 ألف نسمة بحلول 2037، بالتالي فإن حاجة لبنان سترتفع من 2.5 مليون متر مكعب للشرب حالياً إلى 15 مليون متر مكعب للشرب، إضافة إلى مليوني متر مكعب للحرف والصناعات المختلفة.
يتمسك خليفة في كتابه بحقوق لبنان قائلاً “للبنان الحق في إنشاء سد أو أكثر على نهر الحاصباني لتوليد الطاقة الكهربائية وللري، ويمكنه أن يخزن 100 مليون متر مربع”، لافتاً إلى أنه منذ العشرينيات 1921، وضعت سلطات الانتداب الفرنسي الخرائط والدراسات لإنشاء سد على الحاصباني في منطقة إبل السقي، ولكنها لم تنفذ. ويبين خليفة بناءً على القانون الدولي والاتفاقات بين سلطات الانتداب لتقاسم حوض اليرموك، واتفاق ترسيم سوريا ولبنان وفلسطين الذي أقر في مارس (آذار) 1923، وجاء فيه “… كل الحقوق المكتسبة لسكان سوريا (ولبنان) في مياه الأردن يجب المحافظة عليها”، وعليه فإن “الحد الأدنى الذي هو من حق لبنان في مياه الحاصباني نصف معدل الدفق السنوي للنهر” الذي يبلغ 157 مليون متر مكعب.
كما جاء في ذيل اتفاق ترسيم الحدود الموقع في الـ23 من يونيو (حزيران) 1923 بين سلطات الانتداب البريطانية والفرنسية المحافظة على “كل الحقوق المثبتة بصكوك أو عادات محلية في ما يتعلق باستغلال مياه الأنهر والينابيع والقنوات والبحيرات في مجال الري، أو لجهة تموين الأهالي بالمياه”. كما جاء المادة الرابعة من بيان هلسنكي 1966، “لكل دولة من دول الحوض الحق في أراضيها في حصة معقولة ومنصفة من الاستخدام المفيد لمياه حوض التصريف الدولية”. كما أقرت الاتفاقية الدولية للمياه عام 1997 على “مبدأ التقاسم العادل والمنصف”، وأوردت مبدأ عدم التسبب في الضرر للدول الأخرى، والتأكيد على مراعاة مصالح دول المجرى المائي المعنية.
من جهة أخرى، يشير خليفة إلى استمرار المطالبة الإسرائيلية بحصة من مياه نهر الليطاني، وهو نهر وطني ينبع ويصب داخل الأراضي اللبنانية، فيما “لبنان في حاجة إلى مياه هذا النهر للري والشرب والصناعة والكهرباء”.
الوزاني مصدر دائم للمياه
تتميز تضاريس منطقة الوزاني بموقع هيدرولوجي “ممتاز”، “يسمح لها باستقطاب هاطل مطري كبير نسبياً، وكميات مهمة من الثلوج على المرتفعات المحيطة بها، وأهمها جبل الشيخ، وهضبة الجولان السورية”، بحسب الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي الذي يوضح “يعود ذلك إلى عدم وجود عوائق غربية تفصلها عن تأثير البحر المتوسط، فتصلها السحب الآتية المشبعة بالأمطار”، مقدراً “معدل الأمطار المسجل في المنطقة يراوح ما بين 800 و1000 ملليمتر سنوياً في المرتفعات، عدا عن الكميات الناتجة عن ذوبان الثلوج التي لا يوجد محطات لقياسها”.
يتطرق زعاطيطي إلى أهمية منطقة الوزاني، إذ “تجعل الظروف الجيولوجية والتكتونية والتغذية العالية بمياه الأمطار والثلوج، منطقة الوزاني من أهم مناطق جريان المياه الجوفية إلى الشمال الفلسطيني وتضم ثلاثة مخازن كارستية مرتفعة ومفتوحة تصرف جنوباً وعبر الفوالق والتصدعات الأرضية الكبيرة قسماً مهماً من المياه الجوفية”، وهي “مخزن الجوراسيك الكارستي ذو الإمكانات المائية الكبيرة تبلغ سماكة طبقاته نحو 1200 متر، يليه أهمية المخزن الكريتاسي أو الطباشيري، سماكة طبقاته نحو 600 متر، والإيوسين سماكة المجموعة الصخرية الكلسية منه تبلغ نحو 250 متراً”.
ويضيف زعاطيطي “كان محيط الوزاني وجواره إبان الاحتلال الإسرائيلي منطقة عسكرية محظور الدخول إليها من قبل الأهالي والمزارعين. أما بعد التحرير شهدت هذه المنطقة عمليات حفر آبار كثيفة، إذ قمنا بالإشراف على نحو 14 بئراً منتجة بصورة كبيرة فازدهرت الزراعات المروية من بطاطا وبطيخ، وغيرهما”.
عمليات القضم المستمرة
تحتل “المياه” موقعاً متقدماً في قائمة العوامل المولدة للصراع في ظل ندرة الموارد، والحاجة إليها لتحقيق التنمية الاقتصادية في الجليل من خلال المستوطنات. يفصل أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية العميد كميل حبيب جذور الصراع على الماء، ويعود إلى أواخر القرن الـ19، “بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل – سويسرا عام 1897، حاول قادة الحركة الصهيونية إقناع بريطانيا بجعل جنوب لبنان جزءاً من أرض فلسطين التاريخية. وظهرت الفرصة سانحة لهم لحظة انهيار أو تفكك السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى. عندها قامت الحركة الصهيونية بتقديم اقتراح إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919 تطلب فيه أن تصل حدود الكيان الصهيوني المزمع إقامته إلى نقطة تقع جنوب صيدا، لكن الجنوب كان قد وقع تحت سلطة الانتداب الفرنسي بعد العام 1920”.
يعتقد حبيب أن “الحركة الصهيونية رمت من وراء اقتراحها الحصول على المياه” لتأمين حاجة الدولة المزمع تأسيسها مستقبلاً بدعم الانتداب البريطاني على فلسطين، مشيراً إلى أن “وجود المياه يشجع المستوطنين على الارتباط أكثر بالأرض التي لم يولدوا فيها”. كما يذكر حبيب “أعربت الحركة الصهيونية في المذكرة التي رفعتها إلى مؤتمر السلام 1919، بوضوح عن رغبتها في الاستيلاء على جنوب لبنان وجبل الشيخ”، كما أن “التصميم على ضم نهر الليطاني لم تتبدل”، “ففي رسالة بعث فيها وايزمن إلى اللورد كورزن أكد لبنان الغني بالمياه لا يحتاج إلى نهر الليطاني، إذا حرمت فلسطين من مياه الليطاني، فلا يمكنها أن تكون مستقلة اقتصادياً”. وهكذا، “فتحت ستار اتفاقية الحدود الفرنسية – البريطانية في الـ12 من أكتوبر (تشرين الأول) 1920، واتفاق بوليه نيوكامب في الأول من مارس (آذار) 1923 عمدت سلطات الانتداب إلى إحداث تغيير في الحدود بين لبنان، وفلسطين لصالح توسيع الأراضي الفلسطينية من أجل السيطرة على مصادر المياه”.
يرى حبيب أن “هذه الصكوك القانونية كرست منطقة الحولة ذات السهول الخصبة والمياه الغزيرة المعروفة بـ(جورة الذهب) منطقة تابعة لفلسطين. وبموجب هذه الصكوك سلخت من دولة لبنان الكبير القرى اللبنانية السبع: هونين وإبل والقمح والنبي يوشع وقدس والمالكية وصلحا وطيربيخا. وهذه القرى مشهورة بينابيعها الوفيرة وآبارها الغنية بالمياه”.
يضيف العميد حبيب “في سعيها للسيطرة على المياه، تمكنت الحركة الصهيونية من انتزاع تنازل سلطة الانتداب الفرنسي عن معظم المنطقة اللبنانية من الحولة لصالح الانتداب البريطاني. وبذلك سلخت 23 قرية لبنانية هي: المطلة والنخيلة والصالحية والناعمة والخالصة والدوارة والخصاص والعباسية ودفنة واللزازة ومعسولة والدميرجات والجردية وكفربرعم والزاوية والمنصورة والذوق الفوقاني والذوق التحتاني وشوقا وخان الجوير وإفرت وحانوتة وصروح”.
نهر الليطاني والحدود الإسرائيلية المتخيلة
يشير حبيب إلى عملية القضم التدريجي والمستمر التي يستهدف من خلالها الجانب الإسرائيلي مساحة واسعة من الأراضي اللبناني الغنية بالموارد المائية. وتواصلت العملية طوال ثمانية عقود من الزمن، “خلال الاجتماعات التمهيدية لاتفاقية الهدنة في الـ23 من فبراير (شباط) 1949، ضمت تل أبيب عدة مزارع مساحتها 2000 دونم، وبعد حرب 1967 أعلن ديفيد بن غوريون عن الأطماع في المياه اللبنانية، ففي شهر سبتمبر (أيلول)، بعث برسالة رد إلى الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول حول نيات إسرائيل تجاه لبنان، قائلاً “إن أمنيتي في المستقبل هي أن أجعل الليطاني الحدود الشمالية لإسرائيل”، و”جعل حدود إسرائيل العتيدة مع لبنان تبدأ من ساحل لبنان شمال صيدا لتصل إلى قريتي مجدل بلهيص وراشيا شرقاً، ما يفصل مئات القرى اللبنانية عن لبنان ويضعها ضمن الدولة اليهودية”.
وكان رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ليفي أشكول، انتقد ضياع نصف مليار متر مكعب من الليطاني في البحر بدلاً من أن تستفيد منها شعوب المنطقة.
يواصل حبيب استعراضه لأطماع تل أبيب بالمياه اللبنانية، إذ “ضمت مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية، وحصل ذلك على مراحل وفي فترات زمنية متباعدة. ففي عام 1967 اقتطعت إسرائيل مساحة شاسعة من مزارع شبعا، وفي 1973 احتلت مناطق متاخمة لجبل الشيخ؛ وفي 1975 ضمت جبل الشميس؛ وفي 1982 شقت طريقاً في الضفة الجنوبية لنهر الوزاني بطول 12 كلم، واقتطعت المنطقة المحيطة بنبع الوزاني ومساحتها 5000 دونم. وفي 1986 قامت بتسييج مساحة تقدر بنحو 31 كيلومتراً مربعاً تمتد من خراج بلدة الخيام إلى مركبا. أخيراً، وفي 2023 ضمت الجزء الشرقي من بلدة الغجر”.
يعود حبيب بالذاكرة ويستحضر بعض الوقائع التي تشير إلى سعي إسرائيلي لتحويل مياه الليطاني، لافتاً “كانت إسرائيل قد أعدت العدة في عام 1983 لتحويل المياه الليطاني. ففي 6 مايو 1983، أي عشية التوقيع على (اتفاق 17 أيار)، قال وزير الخارجية في حينه إيلي سالم، أمام مجلس النواب اللبناني، إن المخططات والدراسات لتحويل مياه الليطاني مكتملة ولا ينقصها إلا الأمر بالتنفيذ. فيما أكّد الوزير السابق ميشال إده على ذلك خلال ندوة عقدت في جامعة أوكسفورد حول الجنوب والمياه، أن مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية السابق، ديفيد كحي أكد بعد التوقيع على “اتفاق 17 أيار” بأيام في رسالة بعث بها إلى الوسيط الأميركي جيمس درابير، أن انسحاب إسرائيل من لبنان ينتظر أن يرتبط بضمان حصول إسرائيل على حصة من مياه الجنوب اللبناني”.
بشير مصطفى – اندبندنت عربية