القصور والأبنية التراثية… إرث لبنان المهجور
صدى وادي التيم-لبنانيات/
كيفما تلفتنا في المناطق اللبنانية كافة، ستطالعنا قصور عتيقة في غاية الروعة، أو أبنية تراثية مميزة تنم عن إرث معماري قديم وقيمة تاريخية حافلة، إنما بدأ التصدع يأكل جدرانها أو بنيتها التزيينية من عقود وأقواس وواجهات وأبواب ونوافذ ومنحوتات مختلفة، وكل ما فيها بات يدل على أنها أضحت مهجورة، أو غدت ملجأ لمهجرين نازحين من مناطق أو بلدان مجاورة.
ثمة عوامل متعددة تلعب دورها السلبي في تقهقر هذه الثروة المعمارية التي ينعم بها لبنان، من ساحله إلى جبله وفي جهاته الأربع، بعدما عاصر حضارات متنوعة تركت إرثها في القلاع والمعابد والقصور التي شيدتها لتكون واجهتها إلى الحضارات الأخرى، على أنماط معمارية مختلفة ومميزة وهي لا تعد أو تحصى.
ثروة وطنية في حاجة إلى تشريعات وقوانين
من الأسباب الواضحة لانهيار الثروة الوطنية المعمارية وتفككها هي عدم قدرة الدولة على مجاراتها ومواكبتها بالترميم والتصليح وإصدار قوانين لحمايتها ورعايتها، أو تحديث القوانين التي تقدس فقط العمارة التي يعود تصنيفها المعماري إلى ما قبل القرن الـ18.
تضاف إليها أسباب غياب البُناة الأوائل لهذه القصور والمباني وتوزع ملكيتها على أكثر من وريث أو على ورثة الورثة، وما قد ينشأ من نزاعات على هذه الملكيات فتغدو كالوقف، واحتياجها أصلاً إلى مبالغ مضاعفة لإعادة الترميم الباهظة خصوصاً في ظل غياب الأنماط المعمارية التي كانت حية مع أدواتها، في فترات متلاحقة ومتبدلة، وما اعتراها من حداثة في صورة البناء ونظامه ومواده.
يجمع عديد من مهندسي العمارة وخبراء ترميم العمارة التقليدية والقصور القديمة في لبنان أن التراث المبني يحتاج إلى تشريعات وقوانين حماية تدفع المالكين إلى الحفاظ على مبناهم، من خلال سلة من التحفيزات والعناصر المشجعة، والبدلات المساعدة، من قروض ميسرة وتسهيلات وإعفاءات ضريبية وغيرها، وتشجع كذلك الساعين إلى بناء المكاتب أو مقار الجمعيات أو المصارف أو المؤسسات، على الاستثمار من خلال شراء القديم بجماليته وبنيته التراثية المعمارية والحفاظ عليه والاستفادة منه.
ويلفت المستشار في العمارة التراثية والترميم في وزارة الثقافة اللبنانية المهندس حبيب صادق إلى أن “الوزارة بدأت أخيراً تتدخل للحفاظ على القصور والأبنية التراثية من خلال وضع الإشارة عليها لتكون على الجرد العام ومنع التصرف فيها، من هدم أو ترميم أو تعديل إلا من خلال العودة إلى الوزارة، وهذا ما يضبط نوعاً ما الهدم العشوائي الذي يلحق بهذه القصور والمباني، لكن ذلك يحتاج كذلك إلى مؤازرة محلية للإشارة والتنبيه والتبليغ خصوصاً في المناطق خارج العاصمة بيروت أو المدن اللبنانية الرئيسة”.
يشارك المهندس صادق البلديات في إعداد برامج توثق للتراث المعماري المحلي كمرحلة أولى “ونجحت معنا التجربة في بلدة شمسطار البقاعية حيث وثقنا نحو 50 بيتاً تراثياً وعديداً من القصور القديمة وعيون المياه الأثرية ويمكننا القول إنها باتت محمية من الهدم الغوغائي”.
ويأسف صادق “لغياب رؤية الدولة اللبنانية وسياساتها في كيفية التعامل مع التراث العمراني والأثري. أصلاً الآثار خاضعة لمساعدات دولية تمول الحفريات لكنها تأخذ حصتها من العناصر والثروة المكتشفة”.
والحل برأي المهندس صادق أن تعتبر الدولة التراث قيمة محمية بالدستور مثله مثل الملكية الخاصة التي تقدسها القوانين، وهذا لا يعني أن تشتري الدولة كل المباني التراثية والأثرية، بل بإيجاد قوانين تحميها ومبادرات تساعد المالكين على استثمارها.
طرابلس عاصمة التراث المبني
يشير المتخصص في الترميم والحفاظ على التراث المبني، رئيس قسم العمارة في الجامعة اللبنانية المعمار المهندس وسيم ناغي (ابن مدينة طرابلس) “إلى خلل واضح في خطط الحفاظ على التراث، لذلك بتنا نخسر كثيراً من التراث المبني. لكن وبكل ثقة أقول: إن طرابلس اليوم كما هي تعد عاصمة التراث المبني في لبنان، لأنها تحتوي على أكبر عدد ممكن أكثر من أي مدينة أخرى، من المباني التراثية المتنوعة والممتدة على أكثر من 1000 سنة، ومن حضارات متتالية، من أيام الصليبيين وحتى حداثة العمارة في القرن الـ20″.
ويعزو انفلات المحافظة على المباني والقصور التراثية إلى أن “معظم مشاريع الترميم التي حصلت، باستثناء القليل القليل، لم تكن بحسب الأصول المتبعة عالمياً، فهناك عديد من المشاريع التي أتت عبر البنك الدولي، كمشروع الإرث الثقافي، كانت مشاريع تأهيل واجهات فقط، وهذه مشكلة”.
ويضيف “لدينا إشكالية الملكية العقارية التي تجعل عديداً من المباني وخصوصاً القصور، التي آلت إلى عشرات الورثة، بل المئات أحياناً، متروكة ومهجورة بالكامل، وهي تتعرض منذ سنوات للتخريب الممنهج، وخسرنا كثيراً من القصور في السنوات الـ30 التي مرت، منها قصور تقع ضمن المنطقة الأثرية المعروفة في طرابلس، وهي المدينة التاريخية المدرجة على المؤشر العالمي لمنظمة اليونسيف. ونحن بدأنا نلمس أن الإهمال وغياب خطط التأهيل وإدارة التراث جعلت هذه المباني تتآكل وتتصدع بفعل عوامل المناخ والسرقة والتخريب”.
يحمل المهندس ناغي الدولة المسؤولية الأولى والأخيرة عما يجري، “من خلال غياب التشريع، أي في مجلس النواب، فقانون الآثار أو التراث لا يحمي المباني التي تعود إلى 200 سنة سلفت، ولا يزال من أيام الانتداب الفرنسي، متوقفاً عند القرن الـ18”.
برأي المهندس ناغي “أن لائحة الجرد تحتاج إلى إعادة مراجعة وإعادة صياغة ويجب وضع القوانين، والدولة عندما تريد حماية التراث يجب أن تمد يدها على جيبها، وأن تخلق حوافز للمالكين للحفاظ على التراث أو قروضاً ميسرة للترميم والتأهيل وإعفاءات ضريبية وبالرسوم كي تشجعهم على المحافظة، فلا يمكن للدولة أن تحافظ على التراث على حساب الناس فقط”.
من الأسباب الأخرى التي تسهم في خراب هذه القصور، يطرح المهندس ناغي غياب قانون الإيجار العادل، “فمعظم المباني القديمة مؤجرة، والقانون جائر، والمالك يتلقى مبالغ هزيلة على مبان بالغة الأهمية ولا يمكن لهذه المبالغ أن تعتني وترمم”.
تتميز المدينة التاريخية المملوكية في طرابلس، المصنفة أثرية ومساحتها نحو مليون متر مربع، أنها محمية نوعاً ما كونها موضوعة على لائحة المؤشر للتراث العالمي لمنظمة الأونيسكو، وهذا ما يميزها كذلك عن المباني التراثية الأخرى التي بنيت في النصف الثاني من القرن الـ18 ولغاية منتصف القرن الـ20، على النمط المعماري العثماني المتأخر، والعمارة الكولونيالية، وعمارة الحداثة، “وبين هذه المراحل الثلاث يوجد أكثر من 2000 مبنى يشتمل على القيمة الثقافية، لكنها غير مدرجة على لائحة الجرد”.
السرايا الشهابية في حاصبيا
تشكل سرايا حاصبيا “الشهابية”، أكبر وأجمل قصر أثري في جنوب لبنان برمته، أنموذجاً بارزاً للقصور المهددة بتصدع بنيتها المعمارية وتفكك سقوفها وجدرانها أو انهيارها بفعل عوامل عديدة، منها العمر والإهمال المزمن والمناخ المتقلب، وتعدد مالكيها، مع العلم أن تاريخها يرتبط بتاريخ الصليبيين في لبنان الذين بنوها، وكذلك بتاريخ الأمراء الشهابيين ممن حاربوا الصليبيين وبسطوا سلطتهم على حاصبيا، وعلى منطقة وادي التيم، واتخذوا من السرايا مقرهم الأساس، مما جعل تسميتها السائدة والمتداولة هي “السرايا الشهابية”.
يعود تاريخ بناء قصر حاصبيا إلى ما بين العامين 1100 و1171 ميلادياً، جرى بناؤه في وسط قريب من ينابيع الحاصباني عند السفح الغربي لجبل حرمون، ويجاور سوق الخان التي كانت محطة تجارية مهمة لقوافل التجار نحو الداخل السوري أو الفلسطيني.
يلف الإهمال اليوم سرايا حاصبيا من كل جانب، ولم يزل القاطنون فيها من الأسرة الشهابية ومنهم الأمير منذر شهاب وابن شقيقه الأمير عادل محمد شهاب، ينتظرون وضعها على خريطة الترميم والتأهيل وجعلها مزاراً سياحياً وتراثياً وتاريخياً.
يؤكد “الأمير” منذر شهاب أن “السرايا تتوافر فيها حتى اليوم عديد من مقومات العمارة الأثرية الصليبية، والتراثية الشهابية، والتقليدية اللبنانية، الرائعة المداميك والنحوت والمنمنمات والنوافذ والقناطر والمندلون وغيرها، بينما تعاني أرضيتها المرصوفة بالحجارة المقصبة وعديد من جدرانها العالية الارتفاع، أكثر من 15 متراً، نمو الأعشاب البرية والطحالب، فيما الإهمال يقوض بعض معالمها التاريخية، من جدرانها الخارجية وسقف الطبقة العلوية وقد باتت مصدعة في بعض جوانبها”.
تقول عقيلته السيدة مي ماضي شهاب “لم نعد نصدِق الدولة المهترئة منذ أمد بعيد، التي وعدتنا مراراً وتكراراً أنها ستشمل السرايا الشهابية باهتمامها وتأهيلها”.
يقطن الأمير منذر وعائلته في الطبقة الأرضية التي كانت سابقاً إسطبلات للخيل، وهي من البناء الصليبي. وتشير السيدة مي إلى أن “إحدى الحصص التي انتقلت بالوراثة من الجدود إلى الأبناء ثم الأحفاد تتوزع لوحدها اليوم على نحو 45 وريثاً، وهذه الحصة لا يمكن التصرف بها إلا بموافقة الجميع.
دور متأرجحة في النبطية
في النبطية تحديداً، لا تزال البيوت والقصور التراثية في النبطية عرضة للتبدل المعماري في أي لحظة، لهدمها أو إعادة تشكيل هيكلتها والتخلي عن الموروث المعماري البالغ نحو قرن ونصف القرن، إذ لا قوانين تحميها ولا تصنيف يشملها. وإلى ما فعله القصف الإسرائيلي الذي بدأ يطاول المدينة منذ عام 1974 وما زال مستمراً إلى يومنا هذا، من تقويض عشرات البيوت التراثية أو زعزعتها، أسهم نزوح معظم أبناء المدينة عنها، في فترات القصف السائدة بين 1975 و1982، في تفكك بنية هذه الدور والقصور والبيوت التراثية، خصوصاً بعدما راحت بعض العناصر الفلسطينية والحزبية اللبنانية التي انتشرت مكاتبها في أحياء النبطية تفكك أبواب وشبابيك و”ديكورات” هذه البيوت الخشبية لاستخدامها في التدفئة، إلى جانب عشرات المكتبات التي أكلتها النيران للغاية عينها.
شهدت النبطية في عام 1972 فصول هدم السرايا العثمانية القديمة، التي سمي الحي القديم باسمها وبنيت قبل عام 1885، إذ أزيلت عن بكرتها ولم يبق منها أي أثر وسط تجاهل بلدية المدينة والفاعليات المختلفة.
أما عام 1992 فشهد على “نكبة” هدم أهم القصور التراثية وأقدمها في وسط النبطية بل وأشهرها، هو القصر السياسي العائد إلى فضل الفضل، بعد إهماله لسنوات، علماً أنه كان بالإمكان ترميمه. ولم يبق منه غير مدخل من القناطر، التي تميز بها بناء القصر. جرى جرفه من قبل المالك الأخير وحوله إلى موقف للسيارات، انتقاماً من أصحابه الأوائل، إذ كان يعمل أجيراً لديهم، ثم امتلك القصر، فهدمه.
دارة محمد الفضل في النبطية
بدأ الوزير والنائب السابق في البرلمان اللبناني محمد الفضل (1912- 1986) الذي يظهر توقيعه جلياً على علم الاستقلال اللبناني بصيغته الأولى، في بناء دارته في النبطية عام 1924، وأتمها بعد ست سنوات كاملة، من طبقة واحدة، على نمط معماري إيطالي، يعتمرها القرميد؛ وتزينها واجهة من النحوت الصخرية والزركشات الهندسية والنباتية، والنوافذ المقنطرة. كانت الصخور الكبيرة التي بنيت عليها الدار تنقل على الجمال من مقالع في شرق صيدا إلى النبطية، ليتولى النحاتون معالجتها وحفرها بأشكال هندسية مميزة، ثم تثبيتها حجراً فوق حجر، ليكتمل الهيكل والمشهد.
رحل الفضل في عام 1986، تاركاً الدار لعدد من أبنائه. ثم رحل بعض أبناء الفضل وأحفاده، وبقي البعض الآخر، لكن أحوالهم المالية وتراجع مصالحهم في دول الاغتراب جعلتهم غير قادرين على ترميم القصر، فعرضوه للبيع، بأكثر من مليوني دولار أميركي، إذ لا إمكانية لأحدهم في شراء حصص إخوته.
في سبتمبر (أيلول) 2023 أصدر وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى قراراً قضى بموجبه بإدخال العقار رقم 95 في منطقة النبطية التحتا العقارية في محافظة النبطية والذي يضم بيت الفضل التاريخي في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية.
ونصّ القرار على أنه “نتيجة الكشف على العقار، تبين أهمية البناء القائم عليه من النواحي التراثية والمعمارية والمدينية، ووجوب المحافظة عليه، تقرر إدخاله في لائحة الأبنية التاريخية، ولا يجوز القيام بأي عمل من شأنه تغيير الوضع الحالي للعقار المذكور، من دون موافقة المديرية العامة للآثار المسبقة على الأعمال المنوي إجراؤها والمواد المنوي استعمالها”.
سيوقف هذا القرار هدم الدارة التراثية، لكن من سيشتري قصراً منذوراً؟
المصدر: كامل جابر -independent عربية