أجهزة التواصل الذكية تنافس الإعلام التقليدي في حرب جنوب لبنان

صدى وادي التيم – لبنانيات /

لم تمر دقائق معدودات على استهداف سيارة تقل عناصر من “حزب الله” في وسط مدينة النبطية في جنوب لبنان، بتاريخ الثامن من فبراير (شباط) الماضي من قبل مسيرة إسرائيلية، حتى انتشرت مجموعة من “الفيديوهات” والمشاهد المصورة من قلب الحدث، للسيارة في مرحلة اشتعالها الأولى ومحاولة إخماد النيران التي اندلعت فيها جراء الصاروخ المتفجر الحارق، ثم تلتها مشاهد تنقل وقائع احتشاد المواطنين في المكان المستهدف، مما شجع آخرين على الالتحاق بهم.
لا يبعد المراسل الصحافي سمير صباغ أكثر من ثلاثة كيلومترات عن مكان الغارة، لكن “الفيديوهات” المصورة التي جرى توزيع أكثر من خمسة أو ستة منها بمراحل متتالية ومن أشخاص غير معروفين، وليسوا إعلاميين، سبقته وسرقت منه الخبر والحدث والمعلومات الأولية، وكان اللافت كذلك أن عديداً من المحطات التلفزيونية العالمية والمحلية راحت تبث هذه “الفيديوهات” تماماً مثلما انتشرت بين الناس، ممن أعادوا بثها إلى أصدقائهم وإلى الآلاف من أبناء النبطية المنتشرين في كل العالم، لا سيما في أفريقيا حيث تتمركز هناك أو تعمل جالية كبيرة.

فقدان حصرية الصورة والخبر

ويقول سمير وهو مراسل لصحيفة “النهار” اللبنانية وموقعها الإلكتروني، “بأسف شديد، فقدنا حصرية الصورة والخبر، إذ يسبقانك على رغم سرعتك، لمجرد وجود شخص ما في المكان أو يعبر بقربه”. لكن بتأكيد صباغ “أن هذا الإرسال المباشر تغيب عنه الحرفية والمسؤولية في معظم الأحيان، فهو لا يراعي ما يجب بثه وما يجب حجبه، وقد يؤكد لمن استهدف ماذا حصل للمستهدف. أو قد ترافق هذه السرعة معلومات مغلوطة، وهنا بات على من يعيد البث أو النشر أن يتحمل هو تبعات هذا الأمر ومسؤولية أي إخفاق قد يحصل. من هنا يصبح دوري كصحافي أن أكون مصفاة كل ما ينشر”.
ويحسم صباغ أن “مجموعة من المعلومات المغلوطة انتشرت مع هذه الفيديوهات لجهة عدد الأشخاص المستهدفين في السيارة، التي بدأت بثلاث ضحايا، ثم اثنين، ثم لا شيء، بل أصيب شخص أو اثنان، وقد أذاعت محطات تلفزيونية عدة هذه الأرقام واسم من أصيب في الموقع المستهدف، ثم اضطرت لاحقاً إلى إذاعة الخبر بصورة مغايرة تماماً”.
ويشير إلى أنه لم يذع الخبر أو ينشره إلا بشكل أولي، “ثم بعد ساعة ونصف الساعة أذعناه مباشرة على الهواء عبر صفحة (فيسبوك) الخاصة بصحيفة النهار، مع تقديم تحليل لما حصل على الأرض، بعدما جمعنا سلسلة معلومات مؤكدة وبعض المشاهدات من شهود عيان، أو مصادر أمنية موثوقة في المنطقة، وهذا لا يجعلنا متأخرين عن الخبر بقدر حفاظنا على دقتنا ومهنيتنا”.

عتب الضحايا على البث السريع

ويمر أسبوع وتستهدف النبطية للمرة الثانية، قرابة الساعة الثامنة والدقيقة الـ40 من مساء الخميس الـ14 من فبراير الجاري، إذ أصابت صواريخ أطلقتها مسيرة إسرائيلية مبنى سكنياً في حي “التعمير” في وسط النبطية. وظهرت بعد أقل من 10 دقائق “فيديوهات” مصورة من المكان، ثم راحت تنتشر أخبار عن القتلى والضحايا، تتصاعد أرقامهم وتهبط، وعن انهيار المبنى بكامله، حتى إن مصطفى أحمد برجاوي (35 سنة) ويقطن في دير الزهراني التي تبعد خمسة كيلومترات عن النبطية علم بفقدانه والديه في هذه الغارة إضافة إلى شقيقتيه وثلاثة آخرين من أفراد عائلته من مواقع التواصل الاجتماعي.

ويقول “قاسية جداً كانت مواقع التواصل الاجتماعي التي لا ترأف بمشاعر أحد، وقد نعت أفراد عائلتي قبل أن نعرف نحن بذلك، لقد علمت باستشهاد عائلتي من إحدى المجموعات الإخبارية وكان ذلك قاسياً جداً عليَّ، وعلى شقيقي علي في ألمانيا، فالضحايا ليسوا سبقاً إعلامياً”.
في حينه، تتواصل عمليات البحث عن الضحايا إلى ساعات طويلة من الليل وتستمر إلى اليوم التالي، لكن بعد نحو أربع ساعات من وقوع الغارة جرى انتشال الطفل حسين علي عامر البالغ خمس سنوات (قتلت والدته زينب أحمد برجاوي في الغارة وشقيقه الأكبر محمود البالغ ست سنوات ونجا والده) من تحت الردم. وترك فيلم فيديو صوره أحد عناصر الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية (التابعة لحزب الله) مشاعر إنسانية بالغة لدى كثير ممن شاهدوه، بينما كان رفيقه يتولى سحب الطفل ونقله إلى خارج الدمار، ثم إلى المستشفى. واستخدمت عشرات المواقع الإلكترونية والمحطات التلفزيونية هذا الفيديو الذي بث من داخل المبنى في خلال عملية الإنقاذ.

ويقول مراسل محطة “أم تي في” التلفزيونية اللبنانية جورج نهرا (55 سنة) من بلدة القليعة قرب مرجعيون في جنوب لبنان، إنه “يصعب على مراسلي الصحف والوكالات العالمية والمحلية مواكبة غارة من عشرات الغارات التي تستمر ليل نهار على عديد من البلدات الجنوبية، ومتابعة تفصيل التفصيل لكل غارة أو مكان مستهدف أو حدث يحصل”.

عابرون بمنافسة الوكالات والمحطات

ويؤكد نهرا أنه لن يجتاز مسافة 22 كيلومتراً على طريق خطرة جداً قد تكون عرضة للقصف بين النبطية ومرجعيون، “وفي هذا الوقت من الليل لتغطية حدث كهذا، لكن يمكن لي أن أستعين ببعض المصورين المحليين ممن يجيدون التصوير ولو بنسبة قليلة شرط أن يكونوا موثوقين، إنما ثمة سباق يتولاه هواة وعابرون أو متطفلون يدفعون بعض المحطات التلفزيونية إلى استخدام مضمونهم كي لا تغيب عن المشهد والوقائع، وبعضهم بات يبيع ما يصوره لبعض المحطات والجهات الإعلامية”. ويشير إلى “أن الوكالات الأجنبية لن تدخل في هذه المتاهة، وليست مضطرة إلى التنافس في الخطأ، وهي اليوم تقدر الصعوبة التي يعانيها المراسلون في تنقلاتهم وتغطياتهم، فتراهم لا يضغطون علينا خصوصاً بعد سقوط ضحايا إعلاميين في هذه الحرب العبثية”.
ويتولى عناصر الدفاع المدني، و”الهيئة الصحية الإسلامية”، و”كشافة الرسالة الإسلامية” المشاركة في عمليات إجلاء المصابين والبحث عن المفقودين وانتشال المصابين والجثث من تحت أنقاض المباني المنهارة جراء القصف والغارات، خصوصاً إذا كان المستهدفون عناصر أو مناصرين للحزب، ويوثقون في الوقت عينه كثيراً مما يجري في خلال عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض وتصويرها.
ويؤكد مصدر في “الهيئة الصحية الإسلامية” أن نقل بعض المشاهدات و”الفيديوهات” لا سيما تلك التي تحمل طابعاً إنسانياً، “هو من صميم عملنا إضافة إلى مهامنا الإنسانية والصحية وأعمال الإنقاذ، لذلك نحن نعمل ضمن مسؤولية والتزام ولا ندخل في أخبار التضليل أو بث الأخبار الكاذبة، أو نشر التوقعات قبل اكتشافها. نعم أنقذنا الطفل حسين علي عامر من تحت الركام، ونقلنا صورته لما تعنيه من مشهدية إنسانية ومن انبثاق للحياة على رغم الموت، إذ شعرنا للحظات ما أن هذا الطفل راح يعاتبنا على تأخرنا، وكان يجب على العالم كله أن يرى من يستهدف عدونا في كثير من الأحيان”.

المهنية وتجلياتها قبل البث

منذ انطلاق المواجهات على الحدود بين لبنان وإسرائيل، لم يغب المصور التلفزيوني عصام مواسي (57 سنة) (قناة الجزيرة) عن تغطية كثير من المجريات الأمنية والعسكرية. وفقد مواسي في هذه الحرب صديقه المصور في وكالة “رويترز” عصام عبدالله جراء استهدافه وزملاء آخرين في بلدة “علما الشعب” بتاريخ الـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بقذيفة دبابة. وأعقب ذلك سقوط زميليه، الصحافية فرح عمر والمصور، ربيع معماري (من قناة الميادين)، في بلدة طير حرفا، بتاريخ الـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كما أصيب عصام مواسي في حادثة قصف الصحافيين من مسيرة إسرائيلية بتاريخ الـ14 من نوفمبر في بلدة يارون.

على رغم كل ذلك لم يغادر عصام مواسي المنطقة الحدودية، “مع العلم أنني وفريقي من القلائل الذين لا يزالون يغطون ميدانياً في هذه المنطقة الخطرة”. ويعزو مواسي هذا التراجع في الحضور الإعلامي الذي كان يسود ويطغى في السابق إلى “تعمد الإسرائيليين استهداف المراسلين والصحافيين خصوصاً من قبل المسيرات المتطورة، وهذا ما لم نره أو نلمسه مثلاً في حرب 2006. في يارون كانت واضحة جولة الإعلاميين، وتم تنسيق الأمر قبل دخولنا إليها مع الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل، ومع ذلك استهدفتنا المسيرة ونجا معظمنا بأعجوبة”.
يذكر أن مواسي غطى على مدى 35 عاماً من التصوير الصحافي التلفزيوني كثيراً من الحروب في المنطقة وفي دول العالم، في العراق، وأفغانستان، وليبيا، وأوكرانيا (2014). ويقول إنه “على رغم الخطر في كل هذه الحروب والبلدان، لم يتملكنا أدنى شعور بأننا مستهدفون، كما يحصل اليوم. ربما ما يحصل في غزة وما سقط في حربها من صحافيين ومصورين جعلنا نشعر بأننا نحن هنا في عين الهدف في أية لحظة، وهذا ما حدث لزملائنا الذين سقطوا وخسروا حياتهم، ولن تنفعنا لاحقاً كل بيانات الشجب والاستنكار المحلية والعالمية، لذلك نمارس كثيراً من الحذر واختصار الوقت قدر الإمكان في خلال البث والنشر، ناهيك بمعرفتنا الواضحة لجغرافية المنطقة”.

يرفض مواسي فكرة الاعتماد على صور و”فيديوهات” الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، من جهات غير مهنية أو حرفية. ويعتبر أن “فيديوهات وصور ومشاهد الناس والهواة توثق أسرع وتفيد في تعميم الصورة والخبر، لكنها غير مسؤولة، لا يعرف ناشروها ما ينفع أو يضر، وقد يحمل المضمون أخطاء كثيرة وهائلة، يجب أن تحضر التقنية والمهنية بكل تجلياتها كي تراعي حرمة الضحايا وأخطار بث كل ما تراه العين”.
من جهته يرى عضو المجلس البلدي في مدينة النبطية صادق إسماعيل أن “أخطاء شائعة وغير مسؤولة تحصل مع كل عملية أمنية أو عسكرية، إذ يتهافت الشبان يحملون أجهزتهم الخلوية والذكية لتصوير ما يحصل على الأرض، غير مبالين بحياتهم والخطر الداهم حولهم، مما يجعلهم هدفاً سائغاً لو أعادت الطائرات إغارتها على الهدف أو محيطه، ثم يسارعون إلى بث المشاهدات والصور الحية التي ربما تنتهك الأصول وحرمة الضحايا من رجال ونساء، ناهيك ببث مضمون ينتشر بلحظات ودقائق عبر الأثير ويصل إلى كل العالم، وقد يكون مضموناً غير سوي وغير مسؤول، فكيف إذا كان يحمل معلومات خاطئة أو مضرة أو يشوبها التباس؟”.

لا يؤيد إعلاميون مخضرمون وأصحاب تجارب عتيقة هذه الصيغة وهذا النمط الجديد من البث الإعلامي السريع، ويستشهدون بالماضي القريب إذ كان الخبر والحدث يأخذان وقتهما الإعلامي كي يصبحا مادة يمكن بثها إلى الناس أو نشرها. ويتساءلون عن المستفيد من هذه الفوضى الإعلامية التي ساقت معها عديداً من المحطات المعروفة، المحلية والعالمية، وورطتها في أخبار غير دقيقة، وكل ما كانت تحتاج إليه، هذه المحطات، بعض التروي والصبر كي يكتمل المشهد والخبر قبل تعميمهما.

كامل جابر – اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!