المصوّر في قناة الجزيرة إيلي براخيا: اضطراب ما بعد الصدمة صعب ولا شيء يعوّض الخسارة

صدى وادي التيم-لبنانيات/

لم يكن يوم 13 تشرين الأول 2023 مجرّد تاريخ يمرّ على #لبنان، كان محطة دمويّة كُتبت بالدم والموت والغدر. لا شيء يشفي الجراح التي ارتسمت على أجساد الزملاء الصحافيين في علما الشعب، ولا شيء يعوّض الخسارة الكبيرة باستشهاد الزميل المصوّر عصام عبدلله. كريستيا عاصي، إيلي برخيا، كارمن جوخدار وديلان وقعوا ضحية هذا الاستهداف الإسرائيليّ.
3 أشهر مرّت ورحلة العلاج الطويلة ما زالت في بداياتها، عمليّات جراحية ومتابعة طبية، صحيح أنّ الضمّادات تخفي بعض هذه الجروح إلّا أنّ الوجع النفسيّ يبقى أقسى الأوجاع حرقة وصمتاً.
إيلي براخيا، مصوّر قناة الجزيرة في بيروت الذي كان متواجداً لحظة استهدافه بالصاروخ الإسرائيلي في الجنوب، يحاول النهوض بجراحه الخارجية والداخلية، يقاوم وجعه وتساؤلاته التي بقي بعضها معلّقاً، يعمل على استرجاع عافيته الجسدية والنفسية لاستكمال رسالة الصحافة التي يؤمن بها. يتحدّث بصراحة عن الصحة النفسية التي تترك ندوباً غير مرئية وتحدّياً في التعامل مع الصدمات التي يتعرّض لها الصحافي خلال تغطيته الاشتباكات والنزاعات.
في جلسة مصارحة عفوية، وضمن ورشة #تدريب الصحافيين على إجراءات السلامة خلال تغطية النزاعات والحروب، يُشاركنا إيلي برخيا تجربته الشخصية التي أدّت إلى إصابته بشكل كبير في الكتف واليد. يعترف أنّ “تاريخ 13 تشربن الأول لا يمكن نسيانه، سيبقى مطبوعاً في ذاكرتي وذاكرة الصحافة ولبنان. كانت الانطلاقة من مدينة صور إلى بلدة علما الشعب لتغطية الاشتباكات الحاصلة في الجنوب. عند وصولنا إلى هناك، كان واضحاً أنّ حدّة الاشتباكات بدأت تتصاعد أكثر، لذلك اخترنا تلّة كاشفة على الجبهة الإسرائيلية لبثّ رسالتنا المباشرة منها.”
يعرف إيلي تماماً أنّ اختيار النقطة لم يكن عبثياً، وإنّما كان اختياراً مبنيًّا على الدقّة والخبرة في تغطية مثل هذه الأحداث. وعليه جاء اختيار تلك النقطة باعتبارها كاشفة لاستبعاد أيّ فرضيّة أخرى، وكي لا يكونوا موضع شكّ.
ويستذكر إيلي قائلاً: “بعد بثّ رسالتين على الهواء، انضمّ إلينا زملاء من وكالة “رويترز” و”وكالة الصحافة الفرنسية”. وبالرغم من ارتدائنا الخوذات والدروع المطبوع عليها “صحافة”، بالإضافة إلى السيارات التابعة للمحطات الإعلامية، لم نستطع أن ننجو من الاستهداف الوحشي والعدواني”.
بعد ساعة ونصف السّاعة على تواجد الصحافيين في تلك النقطة، يؤكّد إيلي أنّ الـ MK والـدرون ظلّتا تحلقان فوقهم طوال الوقت، يقول: “كان واضحاً إلى العيان أنّنا صحافيّون، وكان يمكن التعرّف إلينا بسهولة”.
ولمن لا يعرف كيفية تغطية مثل هذه الأحداث، يوضح إيلي: “لا نختار مكان التغطية عن عبث، وإنّما بالاستناد إلى الخبرة المكتسبة. لم يكن قد مرّ على عودتي من تغطية أحداث أوكرانيا سوى 3 أسابيع.
وبالتالي كنّا نظنّ أنّ تواجدنا في تلك النقطة، تحديداً في علما الشعب، كان آمناً”.
سيّارة الطاقم الصحافيّ تحترق بعد استهدافها بقصف إسرائيليّ.
إلّا أنّ الشعور بالأمان لم يدم طويلاً، وكانت الضربة الأولى قاضية عندما وجّه الاحتلال الإسرائيليّ عند الساعة السادسة تقريباً الصاروخ الأوّل في اتّجاهنا ما أدّى إلى استشهاد عصام وإصابة كريستيا أبو عاصي إصابة خطيرة في قدميها.
يسترجع مصوّر قناة الجزيرة تلك اللحظات من جديد، يقول: “سمعتُ صراخ كريستيا وكنتُ أنتظر قليلاً لأنني أعرف أنّ هذه الضربة قد لا تكون الوحيدة،  ومن المتوقّع أن تليها ضربة أخرى. وما إن استدرتُ حتى استُهدفنا بصاروخ ثانٍ، وشعرتُ بعصف قويّ وسقطتُ أرضاً. عندما نظرتُ إلى نفسي وجدتُ العظام ظاهرة في كتفي وخسرتُ اصبعين من يدي اليمنى”.
بعد هذا الاستهداف الوحشيّ وغير المبرّر، عمل الزملاء في محطة “أل بي سي” إلى سحبنا من تحت السيارة التي بدأت تشتعل، وحاولوا إبعادنا قدر الإمكان عن النقطة المستهدفة.
يصف إيلي لحظة انتظار سيارة الإسعاف بـ”حسبة الخلاص”، لقد كانت كذلك بالفعل بالنسبة إلى الجرحى الصحافيين. وتمكّن الإسعاف من نقلهم إلى مستشفى جبل عامل حيث نجح الفريق الطبّي في إنقاذ كتفه ومداواة يده قبل أن يتمّ نقلهم إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.
بقي إيلي أسبوعين في المستشفى للمعالجة، وخضع حتّى الساعة لخمس عمليات جراحية. يتابع: “إنّ الطريق ما زالت طويلة أكان من الناحية الجسدية أم النفسية. ومن المهمّ التشديد على الحالة النفسيّة التي غالباً ما لا نتحدّث عنها أو نسلّط الضوء عليها. تلتحم الجروح الجسدية مع الوقت إلّا أنّ الوجع النفسيّ صعب ويتطلّب وقتاً أطول، وأحياناً لا يمكن السيطرة عليه كما هي الحال مع الأوجاع الجسدية”.
ويعترف أنّ اضطراب ما بعد الصدمة صعب رغم اختلاف درجاته بين صحافيّ وآخر، و”أعمل جاهداً لاجتياز مسيرة التعافي النفسيّ”. ويوضح أنّه “لم أعد بعد إلى العمل لأنّ نوعيّة عملي تتطلّب متطلبات جسدية ومعنوية عالية، وما زلت أحتاج إلى مزيد من الوقت لاسترجاع عافيتي بشكل كامل. ما تعرّضنا له موجع وكبير، وهذا الموضع جدّيّ وليس تفصيلاً صغيراً”.
وتابع حديثه مشيراً إلى أنّ “أكثر الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا “ليه صار هيك”؟ هل ألوم نفسي لأنّنا كنّا في تلك المنطقة أم يجب لوم الجهة المعتدية؟ كنا نعمل مقتنعين أنّنا لا نُشكّل تهديداً لأيّ جهة باعتبار أننا في نقطة مكشوفة، والأهمّ أننا فريق صحافي مرّ على تواجده حوالى الساعة ونصف الساعة”.
“صحيح أننا نسعى إلى التركيز على أنفسنا لفهم هذه المشاعر والتخبّطات والتعامل مع هذه الأسئلة بطريقة مختلفة، وهي تُعتبر مهمّة صعبة علينا وعلى محطّتنا، لأنّ لكلّ شخص منّا عائلة وأولاد وأصدقاء”. لذلك يشدّد إيلي على أنّ “الموضوع صعب وأكبر ممّا قد يتخيّله البعض. ورغم قناعتنا أنّنا سنجتاز هذه المرحلة إلّا أنّ أيّ شيء لا يشفي غليلنا من الإجابة على هذه الوحشية التي تعرّضنا لها”.
ويتحدّث إيلي عمّا كشفته التحقيقات التي توصّلت إليها منظّمة “هيومن رايتس ووتش” وإدراج ما جرى ضمن خانة جرائم الحرب، ورأى أنّها “خطوة إيجابية وجيّدة، ولكن هذا لن يعوّض علينا الألم والخسارة التي اختبرناهما. فلا شيء يمكن أن يعوّض خسارة عصام، مثل هذه الخسارة تكون دائماً كبيرة. وليس أمامنا سوى استكمال هذه التحقيقات لتحديد مسار مستقبلنا ومستقبل هذه المهنة، لأنّنا مؤمنون أنّ عملنا هو رسالة ولن نتوقّف أبداً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!