من ينسحب: الحزب أم اليونيفيل؟
صدى وادي التيم-لبنانيات/
في 7 تشرين الأول الماضي استفاق العالم على عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها حركة «حماس» ضدّ المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة وأدّت إلى زعزعة الإستقرار الإسرائيلي وهزّ أسطورة الجيش الذي كان رمز الدولة الإسرائيلية. ذلك اليوم استفاق الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله ليتابع مجريات الأحداث وقد أعلن لاحقاً أنّه علم بما حدث من الأخبار التي تولّت بثّها وسائل الإعلام. استغرق الأمر ساعات قليلة حتى فتح «حزب الله» النار على جبهة الجنوب. منذ 8 تشرين الأول يخوض الحزب ما سمّاه حرب الإشغال لتخفيف الضغط عن غزة. ولكن الحرب على غزة لم تتأثّر بمجريات حرب «حزب الله» في الجنوب.
قبل أيام أعلن أحد المتحدّثين باسم «حماس» من لبنان أسامة حمدان في حديثٍ عبر صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أنَّ السيد نصرالله علِم بعملية طوفان الأقصى في غزّة، قبل نصف ساعة من بدايتها. ونقلت الصحيفة في تقريرها أنّ نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» صالح العاروري المُقيم في لبنان، علِم بالهجوم قبل نصف ساعة فقط من بدايته وذلك عبر إتصال تلقاه من قائد «حماس» في غزة يحيى السنوار. وأن حمدان تبلّغ من السنوار بضرورة إبلاغ نصرالله بشأن العملية، و»هذا ما حصل». لم يتّصل حمدان بنصرالله مباشرة ولكن يمكن أن يكون أوصل الخبر عبر إحدى قنوات الإتصال المربوط بها. وليس من المؤكد أن الخبر وصل إلى نصرالله قبل بدء العملية خصوصاً أن «الحزب» لم يعلّق على ما قاله حمدان قبل أن تنفي «حماس» ما جاء في مقال الصحيفة الفرنسية، مع أن كاتب المقال جورج مالبرونو ضليع في الشؤون اللبنانية. ولم يكن هذا هو التباين الوحيد بين «حماس» و»حزب الله» وإيران.
بين «الحزب» و»حماس»
خطفت حركة «حماس» المبادرة من يد «حزب الله» الذي كان يعتبر أن أمينه العام السيد نصرالله هو قائد المحور الممانع الممتد من إيران إلى لبنان. وهو الذي كان يتحدث باستمرار عن وحدة الساحات التي تجمع بين قادة هذا المحور. وهو الذي خرج في أول تصريح له بعد طوفان الأقصى ليقول إنه لم يكن يعلم بالعملية. وقد بدا نصرالله بعدها وكأنّه تابع لقيادة يحيى السنوار وقائده العسكري محمد الضيف. فقد أفقدت العملية «الحزب» قدرته على المفاجأة وسحبت من يده إمكانية أن يتولّى هو القيام بعملية مماثلة لأنّه كان يحضّر نفسه لمثلها، من خلال التدريبات العسكرية التي أخرجها إلى العلن في عرض عسكري أجراه في الريحان في أيار الماضي.
عملية «طوفان الأقصى» سحبت من يد «حزب الله» مسألة القيادة وجعلته يقف وراء «حماس» التي كان على خلاف معها خلال الحرب السورية. واعتبر «الحزب» أنّه لا يمكن أن ينجرّ إلى حرب كبرى ضد إسرائيل في توقيت لا يناسبه. ولذلك سارعت الجمهورية الإسلامية في إيران إلى تحديد الإطار الذي يمكن أن يتحرّك «الحزب» تحت سقفه على ضوء ردود الفعل الدولية التي شجبت عملية «حماس» ووقفت وراء إسرائيل في حرب الردّة خصوصاً بعد الحشد العسكري الأميركي في المنطقة.
وقد اعتبرت طهران أنّها يمكن أن تكون هدفاً للحرب في حال تدخّلت لدعم «حماس» ولذلك اكتفى «الحزب» بحرب الإشغال تحت سقف قواعد الإشتباك التي لا يزال يحافظ عليها، بينما أُعطِيَ الحوثيون في اليمن الضوء الأخضر للعب دور البديل عن «حزب الله» من خلال اعتماد إطلاق المسيَّرات والصواريخ باتجاه إسرائيل، والتحرّك ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، الأمر الذي يتمّ التحضير للرد عليه بغطاء دولي.
ما زاد في علامات عدم الثقة بين طهران و»حزب الله» وبين «حماس» إعلان المتحدث باسم «الحرس الثوري» الإيراني، رمضان شريف أنّ عملية «طوفان الأقصى» كانت جزءاً من الردّ على مقتل قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، ومسارعة «حماس» إلى نفي هذا الأمر مؤكدة أنّ العملية فلسطينية، قبل أن تنقل وكالة أنباء «فارس» الإيرانية عن قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي قوله إن عملية «طوفان الأقصى» كانت عملية فلسطينية خالصة، خطط لها ونفذها الفلسطينيون بأنفسهم من دون تدخل خارجي نافياً أن تكون انتقاماً لسليماني، مؤكداً أن «الحرس الثوري هو من سيقوم بالانتقام له ولأبو مهدي المهندس الذي اغتيل معه.
في 3 كانون الثاني 2020 تمكنت وحدة كوماندوس أميركية من اغتيال سليماني بعد خروجه من مطار بغداد بواسطة مسيّرات مقاتلة قبل أن تنزل عناصر عسكرية أميركية إلى الأرض وتصادر وثائق وتصوّر المكان وتتأكّد من إصابة الهدف. بعد تلك العملية خرج السيد نصرالله مهدّداً بالإنتقام لسليماني ومطالباً الأميركيين بالخروج من المنطقة، لأنّهم «أتوا عمودياً وسيخرجون أفقياً»، أي محمولين في النعوش.
ولكن بعد مرور ثلاثة أعوام على تلك العملية لم تنجح إيران و»الحزب» في الردّ على اغتيال سليماني، بينما انقلبت المقاييس في المنطقة بعد عملية «طوفان الأقصى» وعادت حاملات الطائرات وعادت قوات المارينز عمودياً. وإذا كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد تبنّى العملية وتباهى بها واعتبر أنها كانت درساً لإيران، لكي تفهم أنّ لدى أميركا قوة وأنّها تستخدمها، فقد أعلن أيضاً أخيراً أنّ بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، تخلّف عن المشاركة في العملية.
ولكن إسرائيل عادت لتتولى تنفيذ عملية أخرى لا تقلّ أهمية، عندما اغتالت في 25 كانون الأول الحالي في حيّ السيدة زينب في دمشق رضي موسوي القائد في الحرس الثوري الإيراني وأحد مساعدي سليماني سابقاً. عملية الإغتيال تمّت عن طريق صواريخ أطلقتها طائرات إسرائيلية تستمرّ في الإغارة على أهداف داخل سوريا من دون أي خوف أو تردد.
ونظراً لأهمية موسوي، أمّ المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي المصلّين في جنازته في إيران بعدما نُقِل جثمانه جواً من سوريا إلى مدينة النجف في العراق ليعبر العواصم التي تعتبر طهران أنّها تحت سلطتها في المحور الممتد من طهران حتى بيروت. كما بعد اغتيال سليماني هدّدت إيران وسائر قوى المحور بالردّ والإنتقام، ودعت إسرائيل إلى العدّ التنازلي. فهل يكون الردّ من جنوب لبنان وهل يكسر «حزب الله» قواعد الإشتباك ويوسّع دائرة العمليات؟ أم يكتفي بالإستمرار في حرب الإشغال التي حدّد نطاقها منذ 8 تشرين الأول الماضي؟
لا يستطيع «حزب الله» ومحور الممانعة التقليل من أهمية عملية اغتيال موسوي. ثمّة مفارقة في هذا الموضوع من خلال الفروقات الكبيرة في وسائط الإستعلام الإسرائيلي. لقد تمكّنت إسرائيل من اغتيال عماد مغنية داخل حي كفرسوسة في قلب دمشق في 12 شباط 2008 وتمكّنت من اغتيال ابنه جهاد لاحقاً في 18 كانون الثاني 2015، ونائبه مصطفى بدر الدين في 13 أيار 2016، وقد قيل أن هذه العملية بالذات كانت تستهدف موسوي نفسه، كما تمكّنت إسرائيل من اغتيال سمير القنطار في 19 كانون الأول 2015 في عمليات قصف مشابهة لعملية اغتيال موسوي الذي تنقل خلال 25 عاماً سبقت اغتياله بين لبنان وسوريا، ممثّلاً للمؤسسة العسكرية الإيرانية، وعمل على إيجاد قناة للنقل اللوجستي إلى «حزب الله» وحركات المقاومة الفلسطينية والنظام السوري. وشارك في حرب تموز 2006، وفي معارك سوريا بعد عام 2011.
إختراقات إسرائيل الأمنية وصلت إلى قلب إيران. في 27 تشرين الثاني 2020، تعرّض العالم النووي الإيراني، محسن فخري زاده، لكمين أثناء انتقاله في سيارة مصفحة كان يقودها وإلى جانبه زوجته، على طريق ريفي في مدينة أبسارد، بالقرب من طهران. وكانت تواكبه ثلاث عربات مصفحة فيها أحد عشر حارساً. روايات الإغتيال تحدّثت عن عملية نفّذها الموساد الإسرائيلي عن طريق مراقبة جوية وتفجير عبوة ناسفة في سيارة أوقفت الموكب الذي تعرّض لإطلاق نار من رشاش حربي موجه بواسطة أقمار صناعية، مخفي داخل سيارة أخرى كانت متوقّفة في مكان الإنفجار قبل أن يتمّ تفجيرها بعد نجاح العملية وتصويرها.
من غريب المصادفات أن إسرائيل التي حقّقت كلّ هذه الإختراقات لم تعلم بعملية «طوفان الأقصى». فقد تفوّق عليها عقل يحيى السنوار ومحمد الضيف وسائر مقاتلي «حماس» الذين شاركوا في العملية وخطّطوا لها على مدى أعوام من خلال التسليح والتجهيز والتدريب وحفر الأنفاق. هذه العملية تكاد تغيّر في تداعياتها خريطة الشرق الأوسط في ظلّ طوفان الردّ الإسرائيلي.
إشغال أم عبور؟
بينما تستمر إسرائيل في حربها على قطاع غزة و»حماس» والفلسطينيين، تتوعّد «حزب الله» وتطلب خروجه من منطقة جنوب الليطاني بالوسائل الدبلوماسية، وتهدّد باعتماد الحل العسكري لإبعاد خطر «الحزب» الذي يسعى إلى تحصين وجوده العسكري وتحديث ترسانته على رغم الخسائر الكبيرة التي يتكبّدها. ومع الحديث عن أهمية تنفيذ القرار 1701 في الجنوب وتولّي القوات الدولية والجيش اللبناني مسؤولية تأمين الأمن فيه، تكرّرت حوادث الإعتداء على دوريات القوات الدولية من بلدة الطيبة إلى كفركلا… في رسائل واضحة لهذه القوات بضرورة التزام حدودها.
قبل عام تقريباً، في 13 كانون الأول 2022، وقعت دورية من الوحدة الإيرلندية في كمين في بلدة العاقبية أدى إلى مقتل أحد عناصرها. أُوقِف أحد المتهمين من «حزب الله» وصدر القرار الظني عن القضاء اللبناني ولكن تمّ إخلاء سبيل الموقوف. في ظلّ هذا المشهد المتفجّر من بيروت إلى طهران تتحوّل القوات الدولية في الجنوب إلى مجرّد مراقبين لا قدرة لهم على منع أيّ عمل عسكري.
ومن خلال الحوادث التي تتعرّض لها دورياتها يبدو أنّ «حزب الله» يريد أن يقلب المعادلة بحيث يُثَبِّت انتشاره في منطقة الحدود ويُبعد القوات الدولية عنها، أو يلغي أي احتمال لأي دور يمكن أن تلعبه في تطبيق القرار 1701. بطبيعة الحال لا تستطيع هذه القوات أن تمنع حرباً يمكن أن تشنّها إسرائيل، ولا أن تمنع حرباً يشنّها «الحزب». دورها يبقى مع الجيش اللبناني في مرحلة ما بعد مثل هذه الحرب لتثبيت خريطة اليوم التالي. هذه الخريطة التي ترتسم معالمها من قطاع غزّة إلى