نوافذ على الخيام لكامل جابر عاصمة الشَّغف والنَّص التفاعليّ

 

صدى وادي التيم – ثقافة /

“نوافذ على الخيام”، كتاب صدر، مؤخَّرًا، في بيروت، تأليف وتصوير الكاتب والإعلاميّ، المنصرف لتغطية الأحداث، والمنغمس في التصوير الفوتوغرافيّ الذي يهواه ويمتهنه، كامل جابر (الناشر: بلديّة الخيام وكامل جابر، ط.1، 25 أيار 2023، 168 ص. من القطع الكبير).

صدر هذا الكتاب في حلَّةٍ أنيقة، غلافه كرتونيٍّ تتصدَّره صورة تراثيّة من “دير حنّة” مطلٍّ على الخيام. الطباعة متقنة، والصور الواضحة، الناطقة بالدلالة، مرفقة بنصوص تقدِّم معرفة متنوِّعة بالمكان المصوَّر، وبتعليقات تتمثَّل في ومضات أدبيّة، تتّصف بخصائص شعريّة. الورق سميك، أبيض ناصع، والخطوط للفنّان علي عاصي.

يفيد عنوان هذا الكتاب أنَّه يمثِّل اطلالات على مدينة الخيام العامليّة، من موقع معيَّن، فالنافذة هي موقع يطلُّ الرائيّ منه على صورة أو مشهد، والنوافذ، في هذا الكتاب، هي، كما يقول المؤلِّف، نوافذ على الجمال، وكما تفيد قراءة الكتاب، نوافذ على الفضاء، ونعني به الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والعمران والإنسان وإنجازاته الحضاريّة ونظام العلاقات القائم بين هذه المكوِّنات، المتمثِّل بما يمكن تسميته “عاصمة الشغف”، فمحتويات الكتاب هي: حكايات التاريخ والتراث، الخيام روح الحداثة، من الذاكرة إلى المستقبل، المياه عصب الخيام، بين السهول والروابي، جنى البيادر والكروم، من المواسم إلى البيوت، السياحة البيئيّة والطبيعيّة، صديقات البيئة والطبيعة، دور العبادة، دور وقصور، وجوه خياميّة…

غلاف كتاب “نوافذ على الخيام” للزميل كامل جابر

يطلُّ كامل جابر على هذه العاصمة، من نوافذه، وهي ليست نوافذ/ مواقع جغرافية فحسب، وإنّما هي مواقع حبٍّ وعشق. يسمِّي كامل جابر علاقته بالخيام علاقة “منادمة”، لم تقتصر على المهنيّة الإعلاميّة، وإنَّما صارت هذه المدينة، هي وأهلها، قبلته، وله مع هؤلاء الأهل صداقات كثيرة.

يقول في بيان الموقع/ المنظور الذي رأى منه: “قبل معاينتها [الخيام] بعين الكاميرا، عاينتها بعين القلب وفرح العاشق بجميلة عرَّشها الخالق على سيادة جبل ومتَّسع فضاء؛ إذ يندر أن تجد مدينة تتعلَّق بأذيالها الأربعة سهول ومروج خضراء، وينابيع ماء…”. تُلفت عبارة “عرَّشها الخالق…”، فكأنَّ ارتقاء الخيام إلى عرش الجمال والسيادة هو إرادة الخالق، سبحانه وتعالى، ما يعني أنّها هبة إلهيّة.

من هذه النافذة، الموقع والمنظور، يطلُّ المؤلّف على المدينة التي أحبَّها وعشقها، فأيُّ كتابٍ صدر عن هذا الموقع/ المنظور؟ يجيب رئيس بلديّة الخيام، المهندس عدنان عليَّان، فيكتب، في مقدّمته للكتاب: “هذا الكتاب يفتح نوافذ الخيام ليقدِّم معرفة بمدينة تتشارك مع محيطها: فلسطين المحتلّة، حرمون، قرى جبل عامل والعرقوب…، التاريخ، وتتقاسم الهواء والمياه والمناخ والعادات، وتتبادل الخيرات والخبرات، معرفة موثّقة بالكلمة والصورة، تراها وتدوِّنها عين ثاقبة مهنيّة محترفة…”.

ويجيب الشاعر الكبير محمّد علي شمس الدين الذي كتب مقدّمة لهذا الكتاب، قبل أن يتوفّى، في 11/9/2022، فيكتب: “يجمع هذا الكتاب لكامل جابر، كأعماله السابقة، إلى التاريخ الاجتماعيّ والجغرافيّ للأماكن ذاك التوثيق الفوتوغرافيّ الفنّيّ الذي يجعل المكان ينطق بما فيه ومن فيه، من خلال سيرة الصورة والكلمة، فالذاكرة هنا هي ذاكرة حيّة للعمران والمعالم الأثريّة وللناس المالئين لهذا العمران في وقت واحد”.

فهذا الكتاب، إذًا، كتاب يقدِّم معرفة موثَّقة بالكلمة والصورة، تقدِّمها عين ثاقبة مهنيّة محترفة، ما يجعله كتاب تاريخ اجتماعيّ جغرافيّ، يمثِّل ذاكرة حيَّة للمكان والناس الذين يحيون في هذا المكان.

إضافة إلى هذا يبدو لي أنَّ هذا الكتاب، كما كتبتُ قبل قليل، كتابٌ يقدِّم معرفة حضاريّة شاملة موثَّقة بالصورة لفضاء مدينة ومحيطها، بمعنى الفضاء الحياتيّ الشامل، وبنصٍّ تفاعليّ. والمقصود بالنصِّ، هنا، ليس الكتابة المعرفيّة فحسب، وإنّما الكتابة والصورة والتعليق الأدبيّ والخطِّ الفنّيّ، ما يجعل هذا النصَّ نصَّا تفاعليًّا تتعاضد فيه مكوِّنات فنِّيّة، ما يشكِّل نصَّا فنِّيًّا تفاعليَّا يتَّصف بخصائص جماليّة شعريّة، وينطق بدلالات، أيّ أنَّه نصٌّ فنّيّ تفاعليّ يمتلك فاعليّة جماليّة دلاليّة، يمكن لمتلقّيه أن يتبيَّن دلالاته في فضاء جماليّ ممتع.

موسم الحصاد في سهل الخيام

لا يتّسع المقام، في مقالة قصيرة، للتحدُّث عن جميع مكوِّنات هذا النصٍّ وتعاضدها، لتشكّل بنيته الكلّيّة، لهذا سنشير إلى بعض هذه المكوِّنات، واثقين بأنَّ المتلقِّي يمكن أن يكمل ما بدأنا به.

نتوقَّف لدى التعليقات، فنقرأ نماذج منها:

1- “عتبتي جفني المنحني، الجسر كحل الحدقة”. الصورة الأدبيّة المبتكرة تشكِّل فضاء العلاقة بين المكان/ العتبة والإنسان/ جفنه المنحني.

2- “الليطاني بيدر الأعياد في مجراه مرايا التلال والمطر”. الصورة الأدبيّة المبتكرة، تكشف عطاءات النهر/ أعياد، وتشكّل فضاء العلاقة بين الإنسان والنهر، الماء. ومن أسف ما صار إليه هذا البيدر صانع الأعياد.

3- “هنا سجّل الأعداء رسائل حقدهم. هنا صمد حماة الديار واستشهدوا “. هذه ثنائيّة ضدّيّة ينطق بها معتقل الخيام، طرفها الأول الأعداء/ الحقد، وطرفها الثاني حماة الديار/ الصمود والفداء والاستشهاد.

4- “يتفجر العسل الشفّاف من حواشيك، الماء** أهزوجة كلِّ شارب”. صورتان، في هذا التعليق، تشكِّلان فضاء العلاقة بين الطبيعة وكائناتها والإنسان، الذي يتحلَّى بالعسل الشفَّاف فيهزج بالفرح.

إنْ هذه الَّا نماذج من التعليقات التي رافقت الصور، وهي في الحقيقة ومضات شعريّة تنطق صورها بالدلالات، وتسهم في تشكيل الفضاء الذي تحدَّثنا عنه آنفًا.

سوق شعبية أسبوعية في الخيام

ترافق الصور نصوص تقدِّم معرفة جغرافيّة تاريخيّة عمرانيّة سكّانيّة، وهذه النصوص مترجمة للإنكليزيّة، فنقرأ، في هذا الكتاب، على سبيل المثال، معرفة بقضاء مرجعيون ومدينة الخيام، ومعتقلها ومعالمها الأثريّة وعمارتها وسكّانها وبأحيائها وسوقها ومكتبتها، ومدرستها وسهولها ومياهها ورجالاتها ودور عبادتها ومطاحنها، ومجزرة الخيام الشهيرة…

تؤدَّى هذه المعرفة بلغة سهلة واضحة، معجمها مأخوذ من لغة الحياة اليوميّة، وعباراتها قصيرة مركَّزة، ومن النماذج الدالَّة على ذلك، نقرأ ما يأتي: “الخيام مدينة قديمة، سمِّيت بهذا الاسم  نسبة إلى خيام يعقوب (1751- 1604 ق. م.)  مدينة عصيَّة على التطويع والاحتلال، برغم احتلالها مدّة ربع قرن، وتحويلها لأمدٍ طويل لأخزى معتقل، نَكِر السمعة والتجربة، في تاريخ الصراع العربيّ الإسرائيليّ… “.

من الأماكن التي يقدّم الكتاب معرفة بها: معتقل الخيام والمستشفى الإنكليزيّ ومطار المرج والركائز والدشم وخنادق الحرب العالميّة… هذه اَثار تركها الغزاة، العدوُّ الصهيونيّ والمستعمر الغربيّ. يعرِّف المؤلِّف بها معرفة وافية، ويعلِّق بلغة أدبيّة: “عبرت الجيوش ورحلت، ظلّ الخندق جرح الجبل”. تشكِّل هذه المعرفة، والصور، والتعليق، والخط الجميل فضاء ينطق بدلالة مفادها: يعبر الغزاة ويرحلون، وتبقى اَثارهم دالَّة على المقاومة التي هزمتهم وأجبرتهم على الرحيل.

مكتبة عامة في بلدية الخيام

يقول محمود درويش، في مجموعته الشعريّة: “لماذا تركت الحصان وحيدًا”. أمكنة، يرتفع تلٌّ أقامه جنود نابّليون بونابّرت لرصد الظلال على سور عكّا القديم…، في الطريق، سياج من الشوك صلَب الإنكليز عليه الأب ليلتين، وفي الطريق أيضًا تلّة السنديان؛ حيث وقع الإنكشاريّ عن بغلة الحرب…، وقلاع صليبيّة قضمتها حشائش نيسان بعد رحيل الجنود….

هذا يفيد أنّ الكيان الاستيطانيّ/ الأداة الموظّفة لأداء دور في خدمة المشروع الغربيّ الاستعماريّ، الرامي إلى تقسيم  الوطن العربيّ وإضعافه، وإبقائه سوقًا ومزرعة زائل كما زال الغزاة من قبله، ولا يبقى منه سوى اَثاره، وأبلغ دليل على ذلك معتقله في الخيام، وهو في الأصل ثكنة بناها الجيش الفرنسيّ، سنة 1933، لتكون مقرًّا له على تلّة تشرف على بلدة الخيام وإصبع الجليل وعلى مرتفعات الجولان، ومع استقلال لبنان تسلَّمها الجيش اللبنانيّ سنة 1943، وظلّت كذلك حتى شهر آذار سنة 1978.

وذلك عندما اجتاح جيش العدو الإسرائيليّ أجزاء من لبنان الجنوبيّ، ونفَّذ هو وعملاؤه عملية تدمير للخيام، وارتكبوا مجزرة الخيام المشهورة، في 17/3/1978، إذ قتلوا 45 رجلًا وامرأة من كبار السنّ، ثم حوَّل الثكنة إلى معتقل زجَّ فيه باَلاف المعتقلين الذين تعرّضوا لأعتى أساليب التعذيب والقهر، حتّى تاريخ تحريرهم في 23 أيّار سنة 2000. صار هذا المعتقل، بعد التحرير معلمًا دالًّا على همجيّة المحتلّ الإسرائيليّ، وعلى حتميّة دحر المحتلّ، وبقي هكذا إلى أن دمَّره العدوُّ، إبّان عدوان 2006.

ويمكن للمتلقّي أن يلحظ تجاور التراث والراهن في هذه المدينة، أو القديم والجديد، ومن نماذج ذلك، على مستوى العمارة، على سبيل المثال، دارة الحاج خليل الحاج ابراهيم عبدالله من نحو أوَّل، ودارة محمد علي صادق من نحو ثان، فالأولى تراثيّة، والثانية حديثة، غير أنّ اللافت الاكتفاء بالقول إنّ دارة صادق بُنيت مكان منزل الشيخ عبد الحسين صادق، ولم تقدِّم معرفة بهذه الأسرة العلميّة السياسيّة التي تعود في أصولها إلى الشيخ إبراهيم يحيى، شاعر النهضة العامليّة ونكبتها في زمن شيخ مشايخ جبل عامل، ناصيف النصّار، والتي كان من أبنائها الأديب والمثقّف العضويّ والناشط السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الكبير حبيب صادق.

صحيح أنّ آل يحيى، وتاليًا آَل صادق، يتحدّرون من الطيبة فالخيام فالنبطية، لكنّهم في المقام الأوّل خياميّون. وهذا الإغفال للوجوه الخياميّة ملحوظ. فقد قدَّم الكتاب معرفة بالإنسان الحقيقيّ، الدكتور الشهيد شكرالله كرم، بما يليق به، فهو الشخصيّة الفريدة في تفانيها وشجاعتها وإيثارها ووطنيّتها، وحبِّ الناس وتقديرهم لها. لكنّه لم يذكر أيَّ وجه من الوجوه الخياميّة سوى ستّة أشخاص ذُكرت أسماؤهم إلى جانب صورهم في الصفحة الأخيرة من الكتاب.

ومن الوجوه الأعلام، على سبيل المثال، الشاعر وكاتب أدب الأطفال حسن عبدالله الذي أشير اليه بسرعة مع أنّه “شاعر الدردارة”، وقصيدته التي تحمل اسم هذا النبع تؤرّخ شعريًّا للخيام، والشاعر محمد عبدالله، وقبل هذين الشاعر الثائر عبد الحسين عبدالله. قد نجد تفسيرًا لهذا، وهو أنَّ هذا الكتاب تضمَّن ما التقطته عدسة المؤلّف من صور.

عندما يحلُّ الغروب ضيفاً على الدردارة

كما لفتني ذكر العنب واللوز والرمّان والقمح والدرّاق…، وإغفال ذكر التّين، وهو الفاكهة العامليّة الأشهر، والتي قال فيها الشاعر: “… في برد ثلج، في نقا تبر، وفي/ ريح العبير، وطيب طعم السكّر/ يحكي، اذا ما صُبَّ، في أطباقه/ خيمًا ضربن من الحرير الأحمر”.

كما لفتني عدم وجود أيّ مؤسّسة إنتاجيّة في هذه المدينة ومحيطها سوى المنتجع السياحيّ، كما أنَّ رئيس البلدية لم يتحدَّث عن أيِّ مشروع إنتاجيّ، ولو من قبيل استثمار مزروعات مرج الخيام الكثيرة  والمتنوِّعة في مشاريع صناعات غذائيّة بسيطة.

كامل جابر، في هذا الكتاب، مؤرّخ حضارة شاملة في نصٍّ تفاعليّ يمتلك فاعليّة جماليّة دلاليّة، يتبيَّنها المتلقِّي في فضاء جماليّة فنّيّة متميِّزة.

وجوه خيامية

المصدر: د.عبد المجيد زراقط – مناطق نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى