قصة معركة خراب عرمان “ميثا الأطرش ورفيقاتها في الوغى”
صدى وادي التيم – متفرقات /
ميثا الأطرش كان يعلوا رأسها تاج الجمال وبيدها عصا الذكاء، توفي زوجها وهي في عز الصبا وريعان الشباب، وكان لها منه ولداً ولكن أخويه من ذات الأب رفضوا الاعتراف له بحصته من الورثة.
حسب التقاليد والأعراف قصدت ميثا الأرملة مشايخ بلدة صلخد ووجهائها ولكنهم لم يفلحوا في مساعدتها فعادت بابنها الى أهلها والذين حاولوا بدورهم أن يجدوا حلا لتلك المشكلة ولكنهم عجزوا عن ذلك بعد إصرار أخويه حرمان ابنها من الورثة.
قصدت الوالي التركي لتحصِّل حق إبنها من الورثة.
أعجب بها الوالي التركي عندما قابلته. فأوصى بها القاضي المسؤول الذي راودها عن نفسها فأبت، وصدته بكل جرأة وعفَّة.
صارحها الوالي التركي بإعجابه لها وبانه يريدها زوجة له فماطلته حتى أخذت حكماً قضائياً من المحكمة يثبت حق إبنها من الورثة ، ولدى إصرار الوالي على طلبه وحتى تتملَّص من طلبه قالت له :
عليك أن تطلب يدي من أهلي، فأنا رهن موافقتهم !!.
ولم ينتظر الوالي التركي ممدوح باشا طويلا، بل أرسل خمسة من مرؤوسيه، يطلبون له ( ميثا ) بقصد الزواج.
رفض أهل ميثا طلب الزواج وأيَّدهم بذلك رجال القرية.
عندما وصل لمسامع الوالي رفض طلبه أراد أن ينتقم من والد ميثا وأهل عرمان.
وعلى جري عادة حثالة بني عثمان.
وعلى وقع ما زلنا لغاية تاريخه نعرفه عن البدو جيران الدروز في تلك المنطقة.
أوعز الوالي التركي الى قبيلة ” الصفيان ” من جماعة البدو بالاعتداء على مزروعات أهل عرمان.
تمَّ قتل بعض المعتدين من البدو على يد حُماة الديار في الذود عن أرضهم.
قام البدو بتقديم شكوى الى حاكم السويداء آنذاك عبدو أفندي.
أرسل عبدو أفندي يطلب بعض وجهاء عرمان ( إبراهيم الجرمقاني ، صالح الحلبي ، هلال العطواني ، محمود صيموعة ).
لم ينصاع وجهاء عرمان لمقابلة الحاكم العثماني بالسويداء لأنهم استعانوا بالمشورة وهو تقليد يجب احترامه حيث قابلوا واجتمعوا مع وجهاء مَلح و امتان و اخبروهم بما حدث.
تعاهد المجتمعون ووجهاء المنطقة على مواجهة أيَّ عدوان.
بعد رفضهم المثول أمام عبدو أفندي الذي ذهب هو بنفسه إلى عرمان على رأس قوة مؤلفة من عشرين جندياً بقيادة مشرف آغا بحجة اعتقال الفارين من الخدمة الإلزامية وبحجة اعتقال نواطير عرمان الذين قتلوا بعض الرُعاة من البدو.
واستضاف عبدو أفندي أحد وجهاء عرمان (محمود أبو خير ) في مضافته و قد أولم لهم صاحب المضافة حسب العادات و التقاليد ، و لكن عبدو أفندي أرسل مساعده مشرف أغا مع جنديين لإلقاء القبض على ناطور البلدة عبد الله ياغي فأحضروا الناطور ولدى مرورهم من أمام مضافة محمود أبو خير حصلت مشادَّة أدت الى مقتل صاحب المضافة والى مقتل مشرف أغا.
لَمَّا وصل عِلم مقتل قائد الحملة، إنسحب عبده أفندي وإحتمى بمضافة إبراهيم الجرمقاني بعدما أوصدوا الباب خلفهم وفي هذه اللحظات هرب خيّال كردي على فرسه خارج عرمان ، ليخبر العثمانيين بما حلَّ بجنودهم .
لجأ الجنود في مضافة الجرمقاني للغدر كعادتهم ، فوضعوا بندقية خارج المضافة فكلما اقترب أحدُ الأهالي لأخذها يقتلونه وظل الاشتباك بين أهالي عرمان والجنود حتى مغيب الشمس وقتل من الأهالي رجلان وامرأة أيضاً.
بعد هذه الخسارة صعد أهالي عرمان إلى سطح المضافة وفتحوا ثغرة تمكنّوا من خلالها النزول الى المضافة والقضاء على كافة الجنود مع قائِدهم عبدو أفندي.
لَمَّا وصل الخبر للوالي العثماني ممدوح باشا قام بتجهيز حملة عسكرية في أوائل تشرين الثاني ١٨٩٦م. من أربعة كتائب مشاة معززة ً بمدفعين كبيرين بقيادة غالب بك و رضا بك وأمرهم بحرق عرمان و تدميرها نهائيا.
تمكن أهل عرمان من الصمود في مواجهة الجيش العثماني وكان المطلوب منهم القتال ريثما تصل النجدة من القرى المجاورة.
خلال اشتداد المعارك كان الجيش العثماني قد رجحَّت كفته لكثرة عدده وعديده خاصة أن النجدات من القرى المجاورة قد تأخر وصولها.
لم تقبل النساء الدرزيَّات هزيمة رجالهن أمام جحافل بني عثمان، فقررن دخول وطيس المعركة إنقاذاً ودفاعاً عن أرضهن وقريتهن، ومؤازرة رجالهن حيث قمن بحمل الرايات وعليها ( فُوَطْ ) بيضاء خلعنهُّن من رؤوسهن ومشين بها تحت البيارق المرفوعة مُنشدين الحداء كأنهن فرسان أتوا للنجدة.
بدأت النساء تنخي الرجال بالحداء ويدفعهن لاستمرار القتال، وقد برزت منهنّ سعدى ملاعب التي كانت تنتقل بين الرجال المقاتلين لتؤمن الماء وتحثهم على الصمود قائلة لهم :
( يا نشامى … الشجاعة صبر ساعة اصمدوا حتى يوصلوا بيارق صلخد ومَلَح وامتان والنصر قريب بإذن الله … قولوا يا غيرة العرض والدين اتكلوا على الله …)
أمَّا دَلَّه حمزة أخذت تشجِّع المقاتلين على الصمود قائلة ً لهم :
( اليوم ولا كل يوم يا نشامى … انتو المنتصرين لأنكم على حق …قولوا يا ناصر الستة على الستين…) و تقصد بذلك الآية الكريمة :
” كم من فئة قليلة غَلَبت فئاتٍ كثيرةٍ بإذن الله ” و بدأت تزغرد لهم و لصمودهم.
وما إن وصل بيرق صلخد أرض المعركة حتى دبَّ الذعر وسط جنود حثالة بني عثمان لسماع حدائهم ونخواتهم.
استبسل فرسان صلخد استبسالا أسطورياً فكانوا كالصاعقة على الجيش العثماني.
تواصلت النجدات من مَلَح و امتان و باقي القرى في المقرن القبلي.
إرتفعت معنويات الدروز، وتراجع الجيش العثماني الأمر الذي جعل الأتراك يدعمون قواتهم المنهزمة بحملة عسكرية جديدة نحو عرمان.
وما أن وصل الجيش التركي إلى ضواحي عرمان، حتى سدّ عليه الدروز جميع المنافذ، وكانوا هذه المرة جاهزين بسيوفهم وبنادقهم وخيولهم وبيارقهم، مترقبين الحملة التركية التأديبية.
استمرت المعركة أسبوعا كاملا وقد خسر العثمانيين أكثر من ٢٠٠٠ قتيل ويقال أن رعاة البقر امتنعوا لسنوات عدة من الرعي بسبب الرائحة التي خلفتها جيف القتلى الاتراك في تلك المنطقة.
سقط من الدروز الأبطال قرابة ٢٠٠ شهيد.
٧٢ شهيداً كانوا من صلخد.
يقول ( المؤرخ الثقة ) محمد كرد علي بكتابه خطط الشام – الجزء الثالث ص ١١١ :
” أحدق الدروز بالقوات العثمانية من كل جانب وقتلوا نحو ألفي جندي بالفؤوس والسيوف في محل يدعى خراب عرمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة ، وقد استشهد من الدروز أقل من مائتين.
مِن الاقوال المأثورة في هذه المعركة :
إنَّ معركة خراب عرمان يجب أن تكتب بماء الذهب وتعلق في المضافات وترضع للأجيال القادمة مع حليب أمهاتهم كما غيرها من المعارك الكبيرة، لأنها من أهم المعارك التي خاضها الدروز ضد الاستعمار العثماني، فالصمود الأسطوري الذي حصل بها والفارق الشاسع من حيث العدد والعتاد بين الطرفين يجعلها في مقدمة المعارك ليس على مستوى جبل العرب فقط بل على مستوى سوريا والبلاد العربية كلها ولا يجاريها في ذلك سوى معركة القراصة ضد جيش ابراهيم باشا و معركة المزرعة التي خاضها ثوار جبل العرب ضد الفرنسيين.
من مدونات فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا