ملاحظات أساسية على مشروع اللامركزية: الأكثريات تتحكم بالأقليات – بقلم بيار عطاالله

صدى وادي التيم – لبنانيات /

يحتل مشروع اللامركزية حيزاً واسعاً من النقاشات وخصوصاً عند الكلام عن الحوار المستجد بين “الشيعية السياسية” ممثلة بالحزب الالهي و “التيار الوطني الحر”، الذي يصر على ان فوزه بالموافقة على مشروع اللامركزية الذي وضعه الوزير زياد بارود يمثل انتصاراً للمسيحيين ويبرر القبول بمرشح “الشيعية السياسية” للرئاسة الاولى. لكن المشكلة ان الامر لن يكون انتصاراً للمسيحيين (كما يدعي الوزير جبران باسيل)، بل الاصح على ما تقول اوساط انه تدمير للتعددية اللبنانية وانتصار لمنطق الغلبة العددية، للاكثريات على الاقليات، فثمة خلل بنيوي في المشروع والامر برمته يحتاج الى اعادة دراسة ذلك ان تقرير مصير لبنان ومستقبله لا يمكن ان يكون نتيجة اتفاقات ثنائية.

في مشروع بارود ان كل جماعة يتراوح عددها بين الف الى خمسة الاف يحق لها بعضو في مجلس القضاء، في حين تظهر الإحصاءات ان 95 في المئة من البلدات والقرى المسيحية هي اقل من خمسة الاف نسمة، ما يعني انه من اصل 32 قضاءً حددها مشروع بارود لن يكون هناك للمسيحيين وبسبب التفاوت الديموغرافي إلا اقضية: المتن، كسروان، جبيل، البترون، بشري، زغرتا، الكورة، وجزين اي ثمانية اقضية فقط. وفي العاصمة بيروت التي تركت قضاءً مستقلاً يحظى المسيحيون بـ 5 مقاعد من اصل 12 في مجلس القضاء رغم انهم موجودين عملياً في نصف العاصمة الشرقي برمته، لكنهم لا يضاهون المسلمين ديموغرافياً.
وفي نموذج عن الاجحاف الذي يلحقه مشروع بارود بالاقليات هو مثلاً قضاء دير الاحمر ذات الاكثرية المسيحية المارونية، والذي يوجد فيها حالياً إطار اداري ناظم هو “اتحاد بلديات دير الاحمر” ذات الغالبية المسيحية الساحقة والذي يرعى شؤون المنطقة وحاجاتها ويجب ان يتحول الى هيئة ناظمة لتلك المنطقة عند اعتماد اللامركزية. لكن ذلك لن يحصل بموجب مشروع بارود الذي يعطي المسيحيين 5 اعضاء من اصل 12 في مجلس القضاء (الذي يقترحه بارود) بسسب ادماجه بلدات اسلامية عدة كبيرة ديموغرافياً الى جانب البلدات المسيحية.

ويتكرر هذا الامر في القبيات ذات الاكثرية المسيحية مع محيطها والتي يوجد فيها اتحاد بلديات حالياً، لكن مشروع بارود يعطي المسيحيين هناك 4 من 12 مقعداً في مجلس القضاء المقترح، ليتحولوا الى اقلية مغلوب على امرها الامر الذي يصوره جبران باسيل انتصاراً للمسيحيين. ولا يقتصر الامر على المسيحيين بل يطال وضع الدروز في اقضية بعبدا والشوف وعاليه وراشيا الوادي وصولاً الى حاصبيا حيث يتم اغراق الدروز بمحيطهم الديموغرافي. والامر برمته يعني ذوبان الاقليات في بحر الاكثريات الطائفية مع ما يترتب على ذلك لجهة التمثيل الصحيح في مجالس الاقضية.
ملاحظة اخرى: اعطى مشروع بارود الخيار للناخبين لانتخاب اعضاء مجلس القضاء في مناطق سكنهم، وهذا الامر يمثل ضربة قاصمة لاهالي البلدات والمدن المختلطة، فماذا لو قررت “الشيعية السياسية” توجيه الناخبين المقيمين في بيروت، والضاحية الجنوبية وخلدة والشويفات وساحل الشوف للاقتراع لصالح مرشحين من انصارها فذلك يعني السيطرة على مجالس الاقضية في بيروت، بعبدا وعاليه والشوف تماماً. وحدث كذلك عن الوجود الشيعي في الفنار والرويسات وبرج حمود والذي سيؤدي الى السيطرة على قضاء المتن مستقبلاً.
اضافة الى ذلك سيؤدي اعطاء الخيار للناخبين للاقتراع في اماكن سكنهم الى إفراغ مناطق الاطراف من الحضور المسيحي.
ان مشروع بارود هو اختصار لقانون الستين الانتخابي، ويناقض تأمين صحة التمثيل التي اعتمدته النسبية وسيؤدي الى تأمين صحة التمثيل في 8 اقضية فقط من اصل 32 ، وعلى الدروز والمسيحيين ان ينتظروا انهيار تمثيلهم في اقضية الشوف وعاليه وبعبدا وحاصبيا وراشيا وجزين وجبيل وزغرتا والكورة على المدى المتوسط وليس بالبعيد.

ايضاً ملاحظة اخرى عملانية – تنفيذية على آلية عمل مجلس القضاء في مشروع بارود هو تناقض آلية عمله مع مشاريع البلديات. فماذا لو لم يتفق مجلس القضاء مع البلديات على تنفيذ مشروع معين ؟ ومن يملك الكلمة الفصل؟ هنا سينشأ تضارب في الصلاحيات بين مجلس القضاء المنتخب من قاعدة شعبية والبلديات المنتخبة ايضاً من قاعدة شعبية اخرى، الم نتعلم بعد من تجربة التعطيل؟ لماذا نلجأ الى مشاريع تعطيلية جديدة بدل ان نسهّل عملية اتخاذ القرار في الشؤون الإنمائية.
ملاحظة رابعة: اساسية او بنيوية على مشروع اللامركزية الذي وضعه بارود والذي يتبناه الوزير باسيل وفريق عمله ويناقشه مع “الشيعية السياسية”، ويتمثل في الشق المالي الذي يبدو ان اوساط “الشيعية السياسية” تتحفظ عليه كثيراً خصوصاً لجهة تحديد نسبة الاموال التي ستحصل عليها الاقضية في اللامركزية. اذ تقوم السلطة المركزية في لبنان حالياً ممثلة بوزارة المال بتحويل 5 في المئة فقط من عائدات “المركز” الى البلديات. وفي مشروع بارود ان كامل ضريبة الاملاك المبنية و50% من الرسوم العقارية التي تجبى في القضاء يجب ان تعود الى القضاء وتنفق فيه، لكن المشكلة او الاشكالية التي تتمثل في من يقرر صرف هذه الاموال ! هل هو مجلس القضاء الذي تتحكم فيه الاكثريات الطائفية المنتخب من الاكثرية على حساب الاقلية ؟

عثرة اضافية في الملف المالي تتمثل في الصندوق اللامركزي الوارد في مشروع بارود والذي يفترض ان تتجمع لديه الاموال لتوزيعها على الاقضية، ويضم مجلس ادارة هذا الصندوق 18 عضواً، تنتخب مجالس الاقضية 9 منهم، و9 يتم تعيينهم بالقرعة من بين رؤساء البلديات. وهنا ايضاً ستتحكم اكثريات في الصندوق اللامركزي الذي سيوزع الأموال على مجالس الاقضية والبلديات.
وفي المعلومات ان “الشيعية السياسية” تتمسك في الحوارات الدائرة مع “التيار الوطني” بخفض حصة الدولة المركزية في تمويل الاقضية بأن تكون اقل من 22 في المئة، كما يصرون على ربط اختيار مجالس الاقضية بالسكان المقيمين مع ما يعنيه ذلك على مستوى بيروت والمتن والشوف وعاليه والشويفات وغيرها من المناطق المختلطة.

في مقابل هذا المشروع، هناك في دائرة الرهبان في الكسليك عودة الى الاهتمام بالشأن الوطني من باب العلم والارقام والموضوعية، والاهم بشعور وطني يتجاوز كل الاعتبارات السابقة، فثمة قراءة جديدة على ما يبدو للقضية اللبنانية تضع الاعتبارات الوطنية الجامعة لكل اللبنانيين في المقدمة وضمناً مصلحة المسيحيين. وعلى هذه القاعدة ينكب فريق اكاديمي واسع في الكسليك على وضع مشروع قانون لـ اللامركزية ينطلق من “اتفاق الطائف” اولاً واخيراً، أي ما معناه اعتماد القضاء وما دون، اي البلديات واتحادات البلديات التي اثبتت جدارتها ونجاحها في التعامل مع قضايا التنمية واشكالياتها. وفي الاعتبار ان تجربة اتحاد البلديات هي الملاذ الآمن الذي ينطلق من الواقع المجتمعي ويرضي كل الفئات ويتناسب مع مقومات التعددية والتنوع ويسقط منطق الغلبة والاستقواء من الاكثريات على الاقليات. خاصةً وأن 76% من بلديات لبنان منضمة اصلاً الى اتحادات وهناك مشاريع مشتركة قائمة بين هذه البلديات ضمن الاتحادات منذ سنين.

وينطلق فريق الكسليك من التجربة الناجحة نسبياً لـ اتحادات البلديات لكي، يدعو الى اعتمادها في مشروع اللامركزية بحيث تصبح الاتحادات هي الاطار المناطقي بدلاً من مجلس القضاء (الذي يدعو اليه بارود في مشروعه)، على الا تبقى اي بلدة خارج الاطار البلدي، وعلى ان تتمثل كل بلدية في مجلس اتحاد من خلال رئيسها المنتخب من الشعب مباشرة . ويعطي مشروع القانون الاتحادات صلاحيات تمكنّها من القيام بمشاريع إنمائية تعجز البلديات الصغيرة عن القيام بها.
في الخلاصة فإن اللامركزية هي مشروع إنمائي لمناطق طالها الحرمان من السلطة المركزية، فهل ستتحول الى مشروع حرماني جديد حيث ستتحكم بقرار الإنماء اكثرية مناطقية ستستجدي منها البلدات المشاريع الإنمائية. وهذا الأمر يطال كل الطوائف وكل المناطق، إن كان الأقلية الشيعية في جبيل وجزين، أو الأقلية السنية في بعلبك والشوف وغيرها، فالإنماء لا يجب ان يتحكم فيه منطق العدد والتفوق الديموغرافي.

الكلمة أونلاين – بقلم بيار عطاالله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى