كلوي انطون اللبنانية تحقق انجازاً في عالم الوشوم

صدى وادي التيم-متفرقات/

كلوي أنطون، لبنانية غادرت بيروت للإقامة بين باريس ونيويورك، مصطحبة معها سنواتها الخمس والعشرين. دفعتها ذهنية تُرغم الأبناء على الاستجابة لمشيئة الآباء والالتحاق باختصاصات يفقدون الودّ حيالها، إلى دراسة إدارة الأعمال، لكنّ الحاجة إلى أن تصبح رسّامة وشوم غمرتها في سنّ الرابعة عشرة. من أجل ذلك الإلحاح، شاءت هجر المدرسة. لم تتقبّل العائلة: «تخصّصي بما يُلائم، وطاردي، لاحقاً، الشغف».
لحقت بأنثى الوشوم نظرة إدانة، مُنطلقها ذهنية تربط هذه الصنعة بالرجل وتصنّفه ضمن خانة يمكن إلحاق المتسكّعين فيها. بالنسبة إليها، اتّضح الاتجاه منذ البداية. تُخبر «الشرق الأوسط» قصتها، وهي تدرك منذ تشكُّل الوعي بأنّ الرسم يحرّكها. عرقل الرفض التحاقَها بكلية الفنون بذريعة أنّ مستقبل ممتهني الريشة واللون غيره مستقبل المنكبّين على الأرقام. أمام معادلة مشروطة مفادها أنْ تلقى دعم العائلة وتمويلها إنْ تخصّصت في عالم الأعمال، أو أنْ تختار الفنون فتؤمّن بنفسها الأقساط والمصاريف، والعود لم يشتدّ بعد؛ أذعنت لمصير قسري. لم يطل الوقت قبل التأكد بأنّ الحياة في مكان آخر.
تُلهم كلوي أنطون الإيمان بالأحلام وتصديقها. كثُرت اللاءات، وظلّت عنيدة. أمام والدة أبدت شيئاً من الانفتاح، ووالد هائم في عالمه، لا يدري أي دروب تنادي الابنة، تحوّل ما كان يُعتَقد أنه هواية إلى قدر كافحت من أجله.
لم يكن الأمر شبيهاً بهبّات مفاجئة تطرأ، كأنْ تستيقظ ذات صباح وتخبر والدتها برغبتها في امتهان العزف على الغيتار. «الرسم والتاتو شكّلا ظلّي منذ الطفولة. أبهرتني الألوان وأنا في الثالثة. تلقّيت بعض الدروس، إنما المسألة لم تتخطَّ حفظ المعلومات. أرادت أمي مهنة تتيح تمكّني المادي. لم تعلم أنّ الوشوم تعود أيضاً بالمال. أنهيتُ تخصّص إدارة الأعمال بصعوبة. كنتُ أرتاد الجامعة بدموع تسبقني إلى مقعدي. هدّأتُ قسوة الواقع بالتخيُّل، ووسط كم هائل من الأرقام، رحتُ أحلم بأنني أزيّن الأجساد برسوم مختلفة».
كثر يرسمون، لكنّ كلوي أنطون تعزف بالإبرة. في بيروت وأماكن أخرى، ارتفع عدد الاستوديوهات ومَن يضيفون إلى الأجساد ما يعبّر عن الدواخل. تنصح الراغبين بالتخصّص والاحتراف، ويؤلمها الانزلاق صوب المنحى التجاري. تقول: «يبدو أنْ لا مفرّ من طغيان هذا الواقع. فالبعض يفتتح متجراً للوشوم من دون خلفية متينة في الرسم ولمجرّد الحاجة إلى مصدر دخل. غادرتُ لبنان لجعل النظرة أشدّ دفئاً وعمقاً. آلمني أن أكون شاهدة على منطق سائد يحدّ من نُبل المهنة. بالنسبة إليّ، الرسم على الورق ينبغي أن يسبق الرسم على الجسد».
ما سرّ النجاح في عالم الوشوم؟ لوهلة، تبدو الإجابة مستغربة: «التواضع». تشرح: «أُذكّر نفسي بأنّ آخرين يتفوّقون عليَّ ولستُ وحيدة في ملعبي. لي أدواتي، لكن ثمة مَن يسبقني في (التكنيك). حين أنشأتُ استوديواً في بيروت، فقدتُ التواضع. ظننتُ أنني بلغتُ أقصى الطموح: مهنة أحبها ومال، فماذا أريد بعد؟ ثم تنبّهتُ إلى أنّ لجميع رسّامي الوشوم استوديوهاتهم أيضاً! محوتُ اقتصار التميُّز عند هذا الحد، وضّبتُ حقيبتي وغادرت».
حطَّ بها الفضول في فرنسا لاستكشاف عمل الرسّامين على الأجساد. تُكمل: «يتيح (إنستغرام) الدخول إلى استوديوهات العالم، لكنّ المعاينة عن قرب مختلفة. هالتني المستويات العالية وعلّمتني أهمية إبقاء القدمين على الأرض. خطأ كبير الظنّ أننا الأفضل».
كان قرارها تكثيف التعلُّم ولجم الانبهار. راح الوهم يسقط بعدما ظنّت أنها فنانة لمجرّد إمساكها الإبرة ورسمها خطاً مستقيماً. ودّعت الاستوديو في بيروت ولوّحت معه لبدايات غير ناضجة انتفخت، فتصوّرت لها على هيئة نجاحات كبرى. باريس لقّنتها، بجانب التواضع، عظمة صقل النفس. «كانت مغامرة شئتُ خوضها بملء إرادتي. قلَّ مالي، وزاد وقت الفراغ، لكنّ هذا ما أريده: أن أضحّي من أجل الإشباع الداخلي».
تُسمّي فترة الزهو في لبنان، «الصفعة الأولى». وهي خلَّفت بقعة حمراء في داخلها، لتذكّر على الدوام بأنّ الإنسان رحلة طويلة، في الحياة والمهنة. على صفحتها في «إنستغرام»، تشكّل الرسوم ما يشبه الحديقة. وإذا بوجوه يابانية تنادي زائر الصفحة وتستوقفه عند تفاصيلها. لِمَ هذه العيون المحدّقة بجفون عالية؟ تجيب: «الوجوه ثقافة وقصص، وهي في اليابان تحمل قيماً إيمانية وبُعداً يتعلّق بالقوة. أكثر الوشوم قرباً من اليابانيين هي لوجوه نساء مقنّعات. ذلك لاستعادة دور المرأة في الحرب، مرتدية القناع لتبدو رجلاً. الحكاية تطفح بالقوة».
المسألة ليست خطوطاً من عالم الهندسة الرياضية. وفق كلوي أنطون هي طاقة يحرّكها لاوعي الإنسان، ويستدعيها لتقيم على جسده. تقول: «حين أرسم الوشوم، أضع نفسي أيضاً على الورق، فتصبح مرايا حياتي. مجموعها هو خلاصة مشاعري خلال سنوات». أكثر ما يستهويها هو «حرية التصميم»، كأن يأتي أحدهم ويخبرها قصته ليتركها حرّة في ابتكار الرسم المناسب.
الوشوم علاج، فتتحدّث عن ارتياح يغمر مَن يسكبون خفايا أرواحهم على أجسادهم: «مثل مَن يرتاد النادي الرياضي أو جلسة طب نفسي. أشعر أنني بعضٌ من رحلة الشفاء ولملمة الجروح. أشفي وأُشفَى».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!