فوضى الألقاب عند العرب
صدى وادي التيم-متفرقات/
“كله عند العرب صابون”، حكمة قديمة يشار بها إلى الجاهل الذي لا يفرق بين الشيء ونقيضه، فهو يساوي بين الأشياء كلها من دون تمييز. وفي المنطقة العربية تنتشر فوضى الألقاب التفخيمية، فغالبية الشعراء كبار والعلماء فلاسفة والمفكرون أساطير، إذ لا ضابط لمنح تلك الألقاب، بل بات الأمر متروكاً لكل شخص، ليطلق على نفسه ما يشاء من الألقاب والصفات، إما جبراً لنقص أو بحثاً عن مكسب أو تمييزاً لذاته بين الناس.
وتباينت آراء المتخصصين في مجالات الأدب والشعر والفلسفة وعلم النفس حول دوافع تلك الظاهرة، ففيما يراها البعض بحثاً عن شهرة أو تحقيقاً لمكاسب مادية، يؤكد آخرون أن زمن الألقاب “قد ولى”، وأن تلك الألقاب هي من قبيل “الوجاهة الاجتماعية فقط”. مؤكدين أن عديداً من كبار الأدباء لم تكتشف قيمتهم ولا أعمالهم إلا بعد رحيلهم.
وعلى الجانب الآخر، يرجع المتخصصون في علم النفس هذا النمط من الألقاب إلى مرض “البارانويا“، وأن من يضفون على أنفسهم التفخيم والإجلال هم بالأساس “مرضى في حاجة إلى الخضوع للعلاج النفسي”.
“اندبندنت عربية” بحثت الظاهرة لرصد دوافعها، ولجوء البعض إلى تفخيم ذاته بإلصاق صفة ربما هو أبعد ما يكون عنها، وهي الظاهرة التي أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تغذيتها وانتشارها، بل وخلقت إلى جوارها مزيداً من الألقاب المتنوعة ما بين خبير وباحث ومستشار ومحلل استراتيجي.
ألقاب تجاوزها الزمن
يرى المتخصص في الشعر والنقد الأدبي شوكت المصري أن القاعدة الجوهرية تقول إن “المبدع أو الأديب أو الفيلسوف لا يكتمل مشروعه إلا بوفاته، وإن أياً من هؤلاء لا يمكن تقييم أعماله وإسهاماته ما دام على قيد الحياة، إذ إن الأمر يكون قابلاً للتغيير سواء بالانخفاض أو الارتفاع أو التعديل في مشروعه أو أفكاره”.
وأضاف المصري في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “فوبيا الألقاب مثل (أمير الشعراء) وغيرها انتهت في أربعينيات القرن الماضي. وحالة الأدب تطورت وتجاوزت هذه الأفكار القديمة”، مستدركاً أن هناك أدباء كباراً بالفعل حصلوا على هذا اللقب وهم على قيد الحياة، منهم محمود درويش وعفيفي مطر وأحمد عبدالمعطي حجازي، فهم “كبار بحكم الريادة، وما قدموه من منجز أدبي لفترة طويلة”.
ولفت المتخصص في النقد الأدبي إلى أن هناك شعراء ومبدعين لم يحصلوا على التقدير، ولم تكتشف قيمتهم إلا بعد رحيلهم بسنوات طويلة، منهم أبوالعلاء المعري في العصر العباسي، إذ جرى الاعتراف بقدره وقيمته بعد قرابة سبعة قرون على وفاته، كذلك حازم القرطاجني في مجال النقد، الذي لم يكتشف كتابه “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” إلا في أربعينيات القرن العشرين، مشيراً إلى أن الحكم النقدي تجاوز من يطلقون على أنفسهم تلك الأوصاف في هذا الزمان.
وأشار المصري إلى أن “هناك كتاباً كباراً لم يصدر لهم سوى عمل أدبي وحيد، لكنه عمل كبير في قيمته وتأثيره، وهنا يستحوذ العمل ذاته على لقب (الكبير)، وليس المؤلف، ومن هؤلاء طرفة بن العبد وله قصيدة واحدة من المعلقات السبع، وكذلك أبوالقاسم الشابي وله ديوان واحد في العصر الحديث هو (أغاني الحياة)، لكنه أثر في تاريخ الشعر العربي الحديث، مما يمنحه وصف الشاعر الكبير”.
ونفى الناقد الأدبي وجود جهة منوط بها منح لقب “شاعر كبير” أو غيره، مؤكداً أن ظاهرة الكتب BEST SEALER أو الأكثر مبيعاً التي انتهجتها دور نشر الكتب في السنوات الأخيرة أسهمت بكثير في تغيير الأحكام النقدية، وغيرت من شكل ذائقة التلقي عند الجمهور، لكنها في النهاية ظاهرة اقتصادية لها بعد تسويقي وليست أدبية، مشيراً إلى أن هناك فترات تشهد رواجاً لنوع معين من الأدب، مثل الأدب الرومانسي، الذي انتشر سنوات ثم اختفى ليظهر أدب “الرعب”، لكنه سرعان ما سيختفي ليظهر نوع جديد وهكذا، فطبيعة الأدب والإبداع هي التحول، ولا يبقى على القمة ويستمر إلا الأدب الحقيقي مثل أدب نجيب محفوظ، الذي منحته جائزة نوبل انتشاراً أكبر عالمياً.
هل تورطت دور النشر؟
وينفي باسل يسطرون، مالك دار نشر، أن يكون لدور نشر الكتب مسؤولية في منح الألقاب للكتاب سواء لقب “مفكر” أو “أديب”، لافتاً إلى أن الناشرين مهمتهم هي تقديم الإنتاج الأدبي أو الثقافي أو العلمي لأي كاتب في صورة مطبوعة من دون تجاوز هذا الدور بمنحه لقباً أو وصفاً.
وأشار يسطرون في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إلى أن هناك كتاباً كثراً حققوا انتشاراً كبيراً وجماهيرية بعد إصدار كتابهم الأول، لكن هذا النجاح لا يمنحهم حق إطلاق لقب “كاتب” و”مفكر” على أنفسهم. نافياً أن يكون الرواج التجاري وتحقيق الكتب مبيعات مبرراً لخلع هذا اللقب عليهم. ومشدداً على أن من يستحق لقب “كاتب كبير” هم من قدموا إسهامات ومؤلفات على مدى سنوات، وأصبحت لهم جماهيرية راسخة، وتتميز كتاباتهم بالعمق مثل نجيب محفوظ وغيره من الأدباء الكبار.
وكان الزعيم المصري سعد زغلول قد أطلق على الأديب والصحافي عباس محمود العقاد لقب “الكاتب الجبار” بسبب كتاباته السياسية، وهو اللقب الذي ظل لصيقاً بالعقاد لما يقرب من خمسة عشر عاماً، ثم اختفى تدريجاً منذ اختلف العقاد مع الزعيم مصطفى النحاس.
جنون العظمة
أما على المستوى النفسي فيرى المتخصص في الطب النفسي هاشم بحري أن هذه الظاهرة تقع ضمن المصابين بمرض “بارانويا”، أو ما يعرف بمرض “العظمة”، وهي محاولة من الشخص لتعويض حالة من النقص الشخصي التي يعانيها بإطلاق الألقاب الفخمة على نفسه التي تمنحه شعوراً بالثقة والقدرة على منافسة الآخرين.
وأضاف بحري في تصريحات خاصة أن هذه الحالة تسعى إلى تعظيم ذاتها، واحتلال مكانة أكبر من قيمتها الطبيعية بخلاف الحقيقة، مشيراً إلى أن الألقاب في الدول العربية عادة ما تكون مصطنعة وغير حقيقية بخلاف الدول الغربية التي يستند فيها اللقب إلى درجة علمية معتمدة، وتمنحها لجان وجهات رسمية متخصصة في منح هذه الدرجات والألقاب.
ويشير هاشم بحري إلى جورج برنارد شو، الناقد والمؤلف الإيرلندي، الذي قيمت أشعاره وكتبه من المجلس الأعلى للأدب، فهو لم يمنح نفسه اللقب أو منحه إياه محبوه، لكنه خضع لتقييم حقيقي أكد جدارته بلقب الكاتب والناقد والمؤلف المسرحي الكبير والشهير.
ويضيف المتخصص في الطب النفسي أن أحمد شوقي حاز لقب أمير الشعراء بتقييم كل الشعراء في عصره، ولكونه أكبر مجددي الشعر العربي المعاصرين، والأمر ذاته في حالة عباس محمود العقاد، الذي لم يحصل على شهادة أو درجة علمية، لكنه لقب بالأديب بعد تقييم إنتاجه الأدبي. وكذلك نجيب محفوظ الملقب بـ”أديب نوبل” أو الأديب العالمي خضعت أعماله للتقييم من لجان متخصصة وصارمة قبل منحه جائزة نوبل.
ويطالب بحري بأن يكون للألقاب والتوصيفات الحقيقية مصدر وجهة معتمدة تمنحها وليس مجرد أوصاف للاستعراض كما يحدث على منصات التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن غالبية من يطلقون على أنفسهم لقب “فيلسوف” بالأساس هم لم يدرسوا الفلسفة، وكان عليهم التعمق في دراستها بشكل موسع وإدراك العلوم وإتقان المعارف، ثم خضوعهم للتقييم من المتخصصين دولياً في هذا المجال.
يشار إلى أن مؤسس اصطلاح الفلسفة، وهو عالم الرياضيات اليوناني فيثاغورس رفض رفضاً قاطعاً أن يدعوه الناس بـ”الحكيم”، إذ إن امتلاك الحكمة، في نظره، من خصائص الآلهة وامتيازاتهم.
وفي أغسطس (آب) عام 2019 نشرت دولة الكويت قراراً في الجريدة الرسمية في شأن حظر الشهادات العلمية غير المعادلة، ونص على أنه “يحظر استخدام الألقاب العلمية في أي وسيلة من وسائل الإعلام المختلفة، أو الإعلان عنها في أي وسيلة من وسائل النشر من أي شخص إلا بعد معادلة شهادته من الوزارة”، ومعاقبة من يستخدم صفة أو لقباً من دون سند قانوني للحبس والغرامة.
وفي مصر تكافح الحكومة لمواجهة ظاهرة بيع بعض الخارجين عن القانون شهادات تمنح حاملها درجات علمية غير حقيقية، إذ يجري استقطاب العشرات من الدارسين المصريين، ورعايا بعض الدول العربية بزعم منحهم “مؤهلات عليا” منها درجتا الدكتوراه والماجستير مقابل مبالغ مالية.
ظاهرة عربية أم عالمية؟
ويرجع المتخصص في الطب النفسي جمال فرويز ظاهرة الألقاب إلى أنها محاولة “تعويضية”، يستهدف صاحبها أمراً من ثلاثة، الأول تعويض نقص عاطفي يعانيه في حياته بأن يكون ذا قيمة في المجتمع، فيعمد إلى وصف نفسه بأوصاف أكبر من حجمه. والثاني يكون الهدف من ذلك تحقيق مكاسب مادية، والتربح من وراء هذه الألقاب، وهي أحد ملامح الشخصية “السيكوباتية”، إذ يسعى للتفخيم وإطلاق الأوصاف غير الدقيقة على نفسه بهدف الحصول على مزايا مادية من وراء هذا اللقب.
والأمر الثالث، وفق فرويز، يخص الأشخاص محبي الاستعراض والبحث عن الوجاهة الاجتماعية ومنح حديثهم الصدقية بهذا اللقب المزيف، وهو ضمن أعراض مرض الشخصية “الهيستيرية”، وهو أمر منتشر بين قطاعات عديدة في المجتمع العربي والغربي ممن يطلقون على أنفسهم لقب الفيلسوف والدكتور والمستشار والشاعر الكبير والخبير وغيرها من هذه الأوصاف.
وحول انتشار تلك الظاهرة في المنطقة العربية فقط يقول فرويز “في الولايات المتحدة الأميركية تنتشر مثل هذه الظواهر بكثرة، لكن ثقافة المجتمعات الغربية لا تعتد بتلك المصطلحات والأوصاف غير المدعمة علمياً، ولا بالدرجات العلمية الممنوحة من جهات خلاف المنوط بها التقييم ومنح هذه الألقاب والدرجات”، مشيراً إلى أن من يفعلون ذلك في الغالب “يسعون إلى العمل في المنطقة العربية التي تهتم بهذه الألقاب والأوصاف من دون التيقن من صحتها، فيبدؤون في إلصاقها بأنفسهم، بما يعزز فرصهم في تحقيق المكاسب المادية عند الوصول إلى الدول العربية”، لافتاً إلى أن كل هذه الحالات “يمكن إخضاعها للعلاج النفسي”.
وخاطبت وزارة التعليم العراقية في يوليو (تموز) 2019 الأمانة العامة لمجلس الوزراء لإغلاق الجامعات المفتوحة وتحذير المواطنين من التعلم فيها، بعد أن تحولت من مؤسسات تثقيفية إلى مشاريع تجارية مقابل بيع شهادات بدرجات علمية ليس فقط للطلاب أو الطبقات الاجتماعية الفقيرة، إنما امتد الأمر إلى طبقة المثقفين والأساتذة الجامعيين والمسؤولين والسياسيين ممن انخرطوا في هذه الجامعات للحصول على شهادات عليا على رغم عدم اعتراف الحكومة بتلك الشهادات.
مواقع التواصل تغذي الظاهرة
ورصدت “اندبندنت عربية” على مواقع التواصل الاجتماعي عديداً من الصفحات التي تحمل تسميات الأديب والشاعر لشخصيات مجهولة تقريباً، مما أسهم في ظهور طبقة جديدة من “أدباء السوشيال ميديا”.
ويتهم جمال فرويز وسائل التواصل الاجتماعي بالإسهام في تغذية هذا الاتجاه، وانتشار هذه الأمراض النفسية بشكل كبير، مشيراً إلى أن بعض المتخصصين في الطب النفسي والمسؤولين عن علاج هذه الحالات المرضية هم ذاتهم سقطوا في هذا الفخ بإطلاق التوصيفات غير المنطقية على أنفسهم في أثناء الظهور في البرامج التلفزيونية أو على منصات التواصل الاجتماعي.
ويتفق مع المتخصص في الطب النفسي هاشم بحري بأن مواقع التواصل منحت هؤلاء الأشخاص منصات مفتوحة لاستعراض أنفسهم، ويزيد من خطر تلك الظاهرة تعليقات وتفاعل أصدقاء هذا الشخص والترويج لهذا الوصف بما يعمق المشكلة النفسية الموجودة لديه.
ألقاب على المشاع
ويرى المتخصص في الفلسفة عصام عبدالفتاح أنه منذ نهاية القرن العشرين أصبح لقب فيلسوف يمكن إطلاقه على أي مفكر وفقاً لمنهج الفلسفة الحديثة، أما قديماً فكان يطلق على من يؤسس لمذهب في مجال الفلسفة، ويضع قواعد ومبادئ محددة مثل “الماركسية” أو “الوجودية”، مشيراً إلى أن الفلسفة تحولت من مذهب إلى منهج تحليلي له شروط محددة يمكن لأي شخص أن يتخصص فيها بالتحليل المعمق في أي قضية متبعاً منهج الفلسفة الحديثة.
وتابع عبدالفتاح أن وصف فيلسوف بات يطلق على من يقدمون تحليلاً عميقاً لأي قضية، مشيراً إلى أن المنطقة العربية “تفتقر إلى التوصيفات التي يمكن استخدامها في الحياة العامة للتعريف بالأشخاص أو بقيمتهم المجتمعية، وأن وصف فيلسوف مقصود منه إظهار احترام وتقدير لقيمة الشخص الموصوف بذلك”.
ويرصد عبدالفتاح ظاهرة في المجتمعات العربية، تتمثل في استخدام وصف “مفكر كبير” للمجاملة، بخاصة بين من لهم مصالح مشتركة، حيث يعمد البعض إلى تمجيد شخص آخر، ووصفه بـ”المفكر” طمعاً في الحصول على منفعة من ورائه، في حين أن وصف “المفكر” تطلق على من أسهم بمؤلفات علمية كثيرة ومتنوعة وأدلى بدلوه في قضايا مهمة، نافياً وجود جهة أو كيان يمنح تلك الألقاب، وأن وجود هذا الكيان يفتح الباب على مصراعيه للفساد.