مراكز كتائبية ومنظمات سرّية.. الغليان الحزبي في الجنوب قبل “الثنائي”

صدى وادي التيم-لبنانيات/

من يريد بناء تصوّر عن الحالة الحزبية في جنوب لبنان اليوم، لن يألوا جهداً في حصر المشهد بين اللونين الأصفر والأخضر، فبعيداً عن امتلاك حzب الله لترسانة عسكرية ذات قوة اقليمية، إلّا أن النفوذ المعنوي والخدماتي، يتباين بينه وبين حركة أمل، والطرفان “يتفاهمان” على تشارك الساحات، حتى لم يعد ينافسهما طرف ثالث، يمتلك مقدرة الازعاج.

إنما، قبل هذا الواقع، كانت هناك وقائع ثريّة بتنوّعها، وتناقضها، وعمقها، وسذاجتها، فكانت سنوات من “المدّ” العظيم، تلاها “جزر” مهول، لم يقتصر على مناطق بذاتها، إذ تعاقبت الكثير من الظروف التي فرزت البلد بأكمله.

منذ عشرينيات القرن الماضي، حتى الثمانينيات، شهد لبنان طفرة من الوعي اتجاه القضايا الحقوقية والقومية، وكان اليمين  واليسار، وما بينهما من أحزاب اقطاعية ذات ولاءات عائليّة، أو دينية ذات تأثيرات محدودة.

عاش جنوب لبنان كل هذه المخاضات، والتباينات، فكانت الحالات الحزبية تتشكل في المدن والبلدات بأشكال علنيّة وسريّة، إذ كان بعضها ممنوعاً ومطارداً من قبل “المكتب الثاني” المتمثل بالمخابرات اللبنانية.

أحمد الأسعد ونجله كامل
اليسار

ما أن ظهرت النواة الأولى للحزب الشيوعي اللبناني، في العام 1924، حتى ظهر التعطش لمبادئ الحزب في الأرياف، وتحديداً جنوب لبنان، الذي تتحكم بأراضيه قلّة قليلة من العائلات الاقطاعية، فاستشعر الفلاح في الفكر الاشتراكي ظهرًا يركن إليه، ويحاكي مظلوميته.

تطور الحضور الشيوعي رويداً حتى منتصف الستينيات حيث برز أحمد الحسيني كمسؤول للحزب في الجنوب. في كل هذه المرحلة كانت الأنشطة واللقاءات سرية، تعقد في البيوت والدكاكين. بعدها انعكست أزمة الحزب بين لبنان وسوريا على الواقع الشيوعي في أنصار حتى تشكلت خلايا ماوية سنة 1966 فوزّعوا نشرة “الشرارة” سرّاً، وامتلك الأفراد بنادق ومسدسات.

لم يدم “إتحاد الشيوعيين” طويلاً فكانت النقلة باتجاه “الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية” مطلع السبعينيات. اشتهرت الحركة الثورية براديكاليتها، وكانت عملية “بنك أوف أميركا” نقطة مفصلية، (التي حصلت في شارع رياض الصلح في بيروت يوم 18 تشرين الأول عام  1973. نفذ العملية علي شعيب الذي تم قتله في نهايتها. الحركة الثورية بقيادة مرشد شبّو. أما علي شعيب فهو الذي كتب له عباس بيضون قصيدة “يا علي” وغنّاها مارسيل خليفة) فقد استشرست السلطة لإنهاء هذه الحركة، وجراء ذلك سجنت الكثير من شبان القرى الجنوبية.

شيوعيون من حولا يرفعون لافتة كتب عليها “نعاهدك بأن نسير على خطاك لحماية الجنوب والمقاومة والحريات” وذلك بعد استشهاد علي أيوب خلال تصديه للعدوان الإسرائيلي على بلدته عيناتا عام 1972.

يخبرنا الدكتور نظام ابراهيم، أن مجموعة من رفاقه الذين كانوا في دار المعلمين، قاموا مطلع السبعينيات، بالفلاحة والزراعة في مرج حاروف (خس، وفجل، وبطاطا)، تطبيقاً لما يؤمنون به من قناعات، وكانت خلفياتهم الفكرية تروتسكية، وماوية.

بالطبع كان لمنظمة العمل الشيوعي، حضور لا بأس به، مع المؤسس محسن ابراهيم.

حتى الحزب التقدمي الاشتراكي كان له رواد في الجنوب، وبعضهم قاتل مع الحزب فترة الحرب اللبنانية. يقول عادل فياض، وهو أحد الاشتراكيين الجنوبيين: “بعد اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975، تسلحت الأحزاب في الجنوب إلا الإشتراكي لم يكن يمتلك سلاحاً ولم يفتتح مراكز في البلدات، إلا قليلاً. على إثر هذا تداعينا وبعض الرفاق، لنشكل وفداً وذهب الجميع إلى المختارة في الشوف حيث استقبلنا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط الذي قال لنا “لماذا تريدون السلاح، من أجل تحرير فلسطين؟ نحن نعتبر ان كل بنادق الأحزاب بنادقنا، أما إذا كنتم تريدون البنادق من أجل الزعرنات، فلا مكان للزعران في حزبنا”.

في مدينة صور كان للحزب التقدمي مركز وعلى مدى سنوات. يقول الاستاذ محسن مسلماني “كان هناك مركز للحزب التقدمي الاشتراكي في بلدة القليلة، وفي تشييع أحدهم جاء كمال جنبلاط إلى البلدة”.

بقي الحزب على هذه الحال وكان التركيز على العمل الاجتماعي في إطار العمل الإنساني والتنموي وتوزيع المساعدات، وكانت هناك ندوات شبه اسبوعية تجرى في البيوت، كما كانت هناك ندوات للسيدات تجرى في المنازل، أو على اسطحها. أيضاً جرى التركيز على أنشطة الكشاف التقدمي الذي كان يخيّم على ضفاف الليطاني.

الإقطاع.. أحزاب بلا أسماء

كانت البلدات الجنوبية موزعة على العائلات الاقطاعية مثل آل الاسعد، ثم آل عسيران، وآل الزين، وآل الخليل، وآل بيضون، وكان الأمر مقتصراً على الولاء الذي يقابله بعض الخدمات مثل الحصول على رخصة، أو التوسط لتعليم الأبناء، أو التوظيف. في الوقت عينه، كان لكل اقطاعي “قبضايات” تحميه، وتهتف باسمه، وأغلبهم كانوا يحملون أسلحة فردية، وبعضهم يدخل في نزاعات محليّة، ليؤول مصيرهم إلى السجن، على أن يتكفل البيك بإجراء بعض الاتصالات، ليعود القبضاي إلى بلدته بطلاً.

أحمد الأسعد ونجله كامل ومؤيدون

لكن، ومع اقتطاع الأحزاب من الحصّة الاقطاعية، بادر كامل الاسعد لتأسيس حزب في العام 1970، هو الحزب الديموقراطي الاشتراكي، وهو حزب جنوبي “علماني”، والمفارقة أنه كان حزب الرئيس الواحد، وبذلك لم يكن ديموقراطياً، وصاحبه اقطاعي، وبذلك ليس اشتراكياً، وبالواقع منتسبيه من الشيعة، فلم يكن مقنعاً في علمانيته.

بعد وفاة الرئيس الأسعد، انتقلت رئاسة الحزب إلى زوجته الثانية لينا، بينما عمد إبنه أحمد (من زوجته الأولى غادة الخرسا) إلى تأسيس حزب جديد، هو حزب الانتماء.

الاحزاب القومية

في العام 1932 تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأثبت حضوره بنسب متفاوتة بين القرى، وقد تعرّض القوميين إلى الملاحقة، بعد انقلابهم الفاشل في العام 1961، كما دخلوا في صلب الصراع، في حرب 1958، حيث تحالفوا مع الرئيس شمعون.

أما القومية العربية، فكانت لها تمظهرات عدّة، وأبرزهم “القوميون العرب” الذي تأسس على يد جورج حبش. انتسب إليه الرئيس رفيق الحريري ذات يوم، ويخبرنا المهندس نافذ قديح ان شقيقته كانت منتسبة إلى هذا الحزب في النبطية، ولم يكن لهم مركز بسبب ملاحقة الدولة لهم. فيما بعد صار اسمهم “الجبهة الشعبية” بنكهة شيوعية أكثر وضوحاً.

بنسبة عالية، كان لحزب البعث العربي الاشتراكي موطئ قدم في الجنوب، وهو منقسم بين العراقي، ويسمّى (القومي)، وسوري ويسمّى (القُطري). كانت الصاعقة الجناح العسكري للبعث السوري، وقد قوي حضورها وتبلور بعد اندلاع الحرب اللبنانية العام 1975.

حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي هو امتداد للجناح العراقي لحزب البعث العربي الاشتراكي ومرتبط تنظيمياً بالقيادة القومية في العراق، قبل حرب الخليج والوصاية على لبنان كانت رخصة الحزب باسم حزب البعث العربي الاشتراكي ولكن سحبت الرخصة ومنح الاسم للبعث السوري ورافق حل الحزب الكثير من الاضطهادات، خاصة ان اكثر المنتسبين من الطائفة الشيعية.

في صيدا كان هناك التنظيم الشعبي الناصري، الذي تأسس في منتصف السبعينيات، ليبرز مطلع الثمانينيات، حين صار له ميليشيا عسكرية، ومجموعات مقاومة.

كتائب وأحرار في قرى شيعية

كان من الطبيعي، وجود مراكز للكتائب في القرى المسيحية في جنوب لبنان، أما المفاجأة فتكمن في افتتاح مركز لحزب الكتائب اللبنانية في أنصار وذلك في العام 1959 بعد ان استأجر شباناً من البلدة محلاً في ساحة أنصار الجديدة على الطريق العام، حوّلوه مقراً للحزب، وقد رفعوا علم الكتائب فوقه، وزودوا المكان ببعض الأثاث حتى يبدو مكتباً رسمياً. عدد المنتسبين للكتائب كان أكثر من عشرة، وأقل من عشرين، ومن مختلف العائلات. الأمر لم يمر مرور الكرام، بل أدى الى حالة من الغضب، وتم اغلاق المركز بعد أيام.

أيضاً لحزب الوطنيين الأحرار منتسبون من البلدة، وكان لهم حراك لا بأس به، والانتساب إلى الأحرار كان على خلفية القرابة بين آل فياض والنائب الشمعوني كاظم الخليل، بمعنى انه لم يكن بناءً على قناعات عقائدية.

الانتماء لحزب الأحرار كان شائعاً في الجنوب، وخاصة في صور ومنطقتها، “إذ كان كاظم الخليل نائب كميل شمعون في الحزب، لكن هذا لم ينعكس ميدانياً، ليكون للحزب مراكز في القرى الشيعية. كانت حالة وذات ولاءات عائلية” كما حدّثنا الصحافي أحمد زين الدين، وأضاف: “بالطبع كان للكتائب مراكز في القرى المسيحية، من جزين إلى مغدوشة، وصولاً إلى رميش ومرجعيون”.

مع ذلك يخبرنا المؤرخ المختص بالشأن الصوري الراحل منير بدوي: “مع الاحتلال الاسرائيلي، جرّب بعض الشبّان من حارة المسيحيين في صور بأن يؤسسوا مركزاً لحزب الاحرار، وهناك مجموعة ثانية أرادت افتتاح مركزاً لحراس الأرز، وقد حال دون تحقيق ذلك مطران الكاثوليك جورج حداد، الذي نبّههم أن الأمر سوف ينقلب على البيئة المسيحية فيما بعد، علماً أن حداد كان من أصدقاء السيد موسى الصدر، وقد تشاركا في أنشطة اجتماعية وانسانية عدّة”.

أما علي مزرعاني، المؤرخ لكل ما يتقاطع مع النبطية، فيقول: “كان هناك كتائبيون من النبطية، إنما بلا مركز لهم، بينما هناك مركز في جرجوع، وهي بلدة شيعية ومسيحية، وهناك مركز آخر في بلدة صربا، وهي مسيحية، ولو كانت تتمتع بطابع يساريّ، كما كان للكتائب حضور خجول في بلدة الزرارية، وهناك تم تشييع أحد الكتائبيين، على خلفية أحداث 1958”.

فتيان علي

مطلع السبعينيات كانت هناك تدريبات سرية تحصل في بعض قرى الجنوب، تحت اسم “فتيان علي”، يقدمها مدربون فلسطينيين (الأرجح من الصاعقة). تجربة لم تكتمل لأن آفاقها كانت محدودة، وقد حسبت على حركة المحرومين لفترة ثم تبرّأت الحركة من فتيان علي وصارت على مسافة منها.

برزت حركة فتيان علي، التي تعود بدايتها إلى العام 1967، عندما أسسها صلاح الدين الخليل في منطقة صور. لكن الحركة الحائزة علماً وخبراً من وزارة الداخلية، انكفأت عن العمل حتى العام 1973. بدأ إسم أحمد صفوان بالبروز في الشارع الشيعي، بسبب نشاطاته ورغبته في إعادة إحياء الفتيان. في العام 1973، افتتح مكتبين للحركة في سد البوشرية وشارع عبدالكريم الخليل في الشياح، كما ذكر الصحافي صبحي أمهز.

شكل افتتاح المكتبين أرضية لاستقطاب الشباب الشيعي (أغلبهم من الجنوب)، إلى أن جاءت أحداث العام 1975. فحصرت الحركة تمركزها في منطقة النبعة، شرقي بيروت، حيث كان ثقل شيعة الأرياف النازحين إلى المدينة. لم تكن الفتيان منتمية إلى الحركة الوطنية، بل كانت فصيلاً من فصائل الجبهة القومية الدائرة في الفلك السوري”.

يقول الاستاذ عبد الرضا شعيتاني: “قبل حركة أمل كان هناك فتيان علي التي اعتمدت على ثلاث رؤوس، صلاح الخليل، أحمد صفوان، وطلال فياض. وكانت تتحرك بتوجيه ورعاية من آل الخليل. صلاح فضّل عدم الاستمرار، وطلال كان مضطراً للسفر، فبقي صفوان في الميدان”.

كيانات أخرى

هنا من الضروري الاشارة إلى وجود حركة أنصار الحق (الرابطة الاسلامية) وهي حالة لم تدم طويلاً في الجنوب، لكن تخللها تدريبات أواخر السبعينيات.

بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية، فكانت حاضرة بقوة في الجنوب في السبعينيات، وربما مصطلح “فتح لاند” يختصر الكثير من الشروحات.

مع الاحتلال الاسرائيلي، انشقّ الرائد في الجيش اللبناني، سعد حداد، ليكون الذراع اللبنانية للإحتلال، كما ساهمت اسرائيل بتأسيس “الجيش الشيعي” الذي لم يدم سوى لفترة قصيرة.

عظيم هو أبن خلدون، حيث يجبرنا على الرجوع إليه، خاصة في رصد الظواهر، وتقفّي مساراتها، واستشراف مآلاتها. يخبرنا “أبا علم الاجتماع” ان التحوّل أمر حتمي، خاصة بعد بلوغ التجارب ذروتها، وهذا لا يعني انتهاء المشاريع الحزبية الراهنة، إنما من شروط البقاء، المقدرة على التحوّل، والتكيّف، وإعادة انتاج الذات.

المصدر:عبدالحليم حمود-المناطق.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!