الموت الرحيم… أبو “التابوهات”
صدى وادي التيم-متفرقات/
تعريف وبعض من تاريخ بداية. الموت الرحيم يعني إنهاء حياة مريض لا أمل بشفائه للحدّ من آلامه المبرحة، بطلب منه أو ممّن ينوب عنه. أصل الكلمة يعود الى الاغريق (Euthanatos)، أي القتل الحسن أو الميسّر. هي ليست بالظاهرة الجديدة. فقد مارسته قبائل بدائية كثيرة كانت تقتل كسحانها لئلا يعيقونها في الترحال. والبعض يعزو الممارسة الى المعتقلات النازية حيث كان يجري القضاء على المرضى والضعفاء والمصابين بعاهات جسدية او عقلية باعتبارهم جراثيم تعبث بالمجتمع. أما الآخرون فينسبون الأمر إلى الفيلسوف الانكليزي فرانسيس بيكون الذي كان يعتبر أن على الأطباء أن يعملوا على تخفيف آلام المرضى، لكن إن وجدوا أن لا أمل في شفائهم، عليهم أن يهيّنوا لهم موتاً أمناً وسهلاً.
لِنترك التاريخ جانباً. فالحالات المرضية التي يتمّ فيها تنفيذ الموت الرحيم هي الغيبوبة (الكوما) في درجاتها القصوى التي تحدث أضراراً في الدماغ؛ الأمراض المستعصية المسبّبة للأوجاع المبرحة كالسرطان؛ الالتهاب الرئوي المزمن الذي يمنع المريض من التنفّس إلا من خلال الأجهزة الاصطناعية. هذا إضافة إلى الموت العيادي أو السريري الذي يمنع تعذيب المريض المحتضِر جرّاء اللجوء إلى الأجهزة المساعِدة على التنفّس وإدامة النبض متى تبيّن أن الموت مصير محتّم. وآليات التطبيق تتنوّع بين القتل الفعّال أو المباشر بجرعة دواء قاتلة؛ القتل غير المباشر من خلال عقاقير تهدئة الألم تفضي إلى توقّف عمل عضلة القلب على المدى الطويل؛ والقتل غير الفعال كإيقاف علاج المريض أو توقيف عمل الآلات المساعِدة.
«لا» قانونية… لكن
أحد مسارح الجدل قانونيّ بامتياز. للاطّلاع أكثر، كان لـ»نداء الوطن» حديث مع المحامي ميشال فلاح الذي أشار إلى أن المشترع اللبناني تطرّق إلى موضوع القتل الرحيم في كل من قانون العقوبات (تحت عنوان القتل بعامل الإشفاق) وقانون الآداب الطبية. «لقد نصت المادة 552 من قانون العقوبات اللبناني على أن يُعاقَب بالاعتقال المؤقّت لمدّة عشر سنوات على الأكثر كل من قَتَل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق وبناء على إلحاحه بالطلب»، كما يضيف. ثم ان الفقرة العاشرة من المادة 27 من قانون الآداب الطبية منعت من التسبّب إرادياً بموت المريض، فارضة إعطاءه العلاجات اللازمة لإبقائه على قيد الحياة. وثمة المزيد: «يُعتبر القتل من الناحية القانونية إزهاقاً لروح الإنسان حتى لو كان مصاباً بمرضٍ مستعصٍ. وأي فعل يقع على مثل هذا الإنسان واقترن بقصد إحداث الوفاة، يُعتبر جريمة قتل عمدي. لكن، ولمّا كان القتل الرحيم يستند إلى باعث الشفقة، نصّت بعض التشريعات الجنائية على اعتباره عذراً مخفّفاً للعقاب، كون القاتل أقدم على اقتراف فعله تحت تأثير عاطفة نبيلة»، والكلام دوماً لفلاح.
وهذه خلاصة وجدانية منه. فالحياة نعمة من عند الله ولا يحقّ لأي إنسان أن يقرّر مصيره أو مصير الآخرين بنفسه، كما من الصعب على الطبيب أن يحكم ما إذا كان المريض قد وصل إلى مرحلة الموت أم لا. لكن، بالمقابل، يستند مؤيّدو فكرة الموت الرحيم الى مبدأ حرية الإنسان في تقرير مصيره وإراحة المرضى من آلامهم. «لا بدّ للمرء من أن يطرح على نفسه السؤال التالي: ماذا عليّ أن أفعل عندما أرى من أُحبّ يتعذّب لا سمح الله بلا طائل أو أمل بالنجاة؟ الموت قد يكون رحيماً في بعض الحالات، ولربّما وجبت تسميته «الموت بكرامة» حين تمسي الحياة لا تُحتمل، بل حين تتحوّل إلى موت على قيد الحياة».
أطباء مؤيّدون
ومن القانون إلى الطب. «نداء الوطن» تواصلت مع نقيب الأطباء، الدكتور يوسف بخاش، الذي أعاد التأكيد أن القانون اللبناني واضح جداً لجهة منع الموت الرحيم. وهذا يُطبَّق على كافة الحالات أكانت أمراضاً سرطانية وغيبوبة ومشاكل تنفّسية، كما على الأمراض العقلية التي لا شفاء منها وتتطلّب علاجاً دائماً للمريض وفصله عن المجتمع لما يسبّبه من خطر على نفسه وعلى الآخرين. «لقد واجهْتُ منذ فترة حالة مماثلة في أحد مستشفيات لبنان بعد أن طلب ذوو مريض مصابٍ بالسرطان ولا أمل بشفائه وضع حدّ لحياته، لكن القانون يمنع ذلك للأسف»، كما يوضح بخاش، مؤكّداً ضرورة أن تعمل وزارة الصحة والنقابات المعنية والدولة عامة على تعديل القانون من أجل إقرار الموت الرحيم. «من الناحية الإنسانية، نأمل في الوصول إلى حل طبيّ لجميع الحالات المستعصية، لكن في ظل القدرات الطبّية الحالية، يشكّل هؤلاء المرضى عبئاً على أسرهم لعدم القدرة على تحمّل تكاليف العلاج وتحوُّل وضعهم الحياتي إلى ما لا يُطاق»، على حدّ قوله.
نسمع أن عدم إقرار الموت الرحيم يُساهم في زيادة حالات الانتحار. استفسار آخر حملناه إلى بخاش ويقول: «الأزمة المستفحلة جعلتنا نرى المرضى يفضّلون الموت في بيوتهم أو الانتحار على أن يتحمّلوا تكاليف المستشفيات. إنه لموت رحيم فُرض تلقائياً على المجتمع ككلّ. ربما يجب أن نضم الصوت إلى أحد أطباء الأمراض السرطانية الذي كان يطلب، حين يفوق الموضوع القدرات الطبية، تَرك المرضى يذهبون بسلام». القسوة العلاجية (Acharnement thérapeutique) تصبح غير نافعة حين يقف الطب عاجزاً، لذا فالعمل على إقرار الموت الرحيم وارد ضمن الأجندة النقابية، لكن في ظل «الكوما» الدستورية والقيود الطائفية، لا أمل بأي تعديل على المدى القريب، أقلّه كما يتوقع بخاش.
…وآخرون رافضون
نبقى في الإطار الطبيّ لكن مع الاختصاصي في أمراض الدم والأورام، البروفيسور فادي نصر، وله رأي آخر. فقد لفت في اتصال مع «نداء الوطن» إلى رفضه المطلق للموت الرحيم لأنه «كشخص مؤمن، ليس لي الحقّ بأن أنهي حياة شخص وأقوم بقتله أيّاً كان السبب». نصر رأى أن النقطة الأهم التي يجب التوقّف عندها هي الأسباب التي تدفع بالمريض لطلب الموت الرحيم، والتي تتمحور حول خوفه من مواجهة الألم والعذاب ومن كيفية تخطّي المرحلة. ما الحلّ إذاً؟ «الحلّ ليس بقتل المريض إنما بتأمين طُرق علاجه بشكل صحيح خلال مراحل حياته الأخيرة، وطمأنَته إلى أن الطبيب سيقوم بما يلزم لتفادي أي شعور بالألم، من خلال المسكّنات والأدوية اللازمة». مع العلم أن ثمة مؤسسات عدة، مثل مؤسسة «سند»، تقوم بتوفير المسكّنات مجّاناً للمريض ومتابعته عبر طبيب أو ممرّضة مختصّة في المنزل ضماناً لموت سليم وهادئ، بحسب نصر.
لكن أيّهما أفضل: ما نشهده من مرضى يقضون بسبب عدم قدرتهم على توفير العلاج، أم الموت الرحيم؟ «رغم مشاكله ومصائبه، ما زال لبنان أفضل من غيره من البلدان. نعم، من خلال خبرتي، نشهد مؤخّراً وفاة الكثير من المرضى لعدم تمكّنهم من تأمين العلاج. ونلحظ مزيداً من حالات الانتحار بين مرضى السرطان ما إن يعلموا بمرضهم. لكن نشدّد مجدداً على أن بالإمكان السيطرة على الألم حتى لو كان المريض لا يملك مصاريف العلاج»، برأي نصر. فالعلاقة التي تربط الطبيب بالمريض ودعم الأول للثاني من الأهمية بمكان، كما ينهي، مطالباً بأن ندع سنّة الطبيعة تقوم بما يجب، تاركين للإرادة الربّانية حسم مسألة الحياة والموت دون أي تدخّل بشري.
علم النفس يحذّر ويوجّه
بالحديث عن الإرادة الربّانية، موقف الأديان من الموت الرحيم ليس سرّاً إذ هي تتّفق على رفضه جملة وتفصيلاً. لكن ما تفسير علم النفس وما هي تداعيات الأمر على المريض وذويه والمجتمع؟ الدكتور في علم النفس العيادي والمعالج النفسي، إيلي أبو شقرا، يخبرنا بأنه «يجب النظر، من الناحية النفسية، إلى الأهل الذين يأخذون قرار الموت الرحيم كردّ فعل على معاناة المريض ومن منطلق شعور بالذنب يُرافقهم مدى الحياة. هذا عدا عن الخلافات العائلية التي تظهر بين مؤيّد ومُعارِض». التداعيات النفسية سلبية إذاً، ذلك أن من يقرّر وينفّذ من أهل وأطباء وممرّضين يواجِهون معضلة «تأنيب الضمير» حتى لو كان الدافع إخراج شخص من دوامة العذاب. فهناك وسائل أخرى لتخفيف الألم دون تحمّل تبعات القتل النفسية، كما يردف أبو شقرا.
والسؤال الأبرز: ماذا لو كان المريض موافقاً؟ لا يمكن الاتّكال على إرادة الأخير وهو يعاني ما يعانيه من تخبّط نفسي قوامه مرض وألم يتسيّدهما شبح التكاليف التي تتكبّدها عائلته. فما يقوم به المعالج النفسي، الذي لا يمكنه بأي حال جعل المريض يبدّل قراره لمجرّد التبديل، هو توجيه تفكيره من الناحية العاطفية إلى تلك العقلانية وحثّه للبوح بالأسباب التي دفعته لاتّخاذ القرار وبما يتوقّع حدوثه بعد إنهاء حياته. «الأساس لدى المريض ليس إنهاء الحياة بقدر ما هو وضع حدّ للعذاب. لكن من يَضمَن ألّا يكون هناك عذاب بعد الانتقال؟ من هنا نحاول مقاربة الموضوع بطريقة مختلفة لنقنع المريض بأن الهدف من التراجع عن قراره ليس البقاء على قيد الحياة وحسب بل إدراك الأسباب التي دفعته لاتّخاذه. فالوقت كفيل بأن يدرك أن في القرار تهوّراً وردّ فعل على حالة نفسية وصحية أكثر منه إنهاءً للحياة بذاتها»، يختم أبو شقرا. وبين هذا الرأي وذاك، الجدل «المحرَّم» يستمرّ.
المصدر:نداء الوطن