“صفقة قرن” جديدة في المنطقة.. وهذه مؤشراتها 

 

صدى وادي التيم-من الصحافة العالمية/

خلال وداع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي زار موسكو في العشرين من شهر مارس/آذار الماضي ان هناك تغييرات “لم تحدث منذ مئة عام.. عندما نكون معاً فإننا نقود هذه التغييرات”. هذه العبارة قالها بينغ وهو يهم بالخروج من ضيافة نظيره الروسي وهو يعلم ما الذي يُكتب للعالم الجديد.
حتى الآن، تُحاذر الصين دخول اللعبة السياسية؛ انها تكتفي بالجانب الاقتصادي الذي يريد تزعم العالم، لكن وفق توقيت بكين. حتی قضية تايوان، فإنها تتعامل معها بهدوء قلّ نظيره، مع السعي إلى عدم رفع حدة الازمة. وللمرة الأولى منذ عقود نسمع بمبادرة صينية في منطقتنا طرحها الرئيس الصيني للتقارب السعودي ـ الإيراني. مبادرة ناجحة وافق عليها البلدان أدت حتى الآن إلی لقائين. الأول، أمني بامتياز بين أكبر مسؤولين أمنيين في كل من الرياض وطهران؛ والثاني، سياسي بامتياز بين وزيري خارجية البلدين لاعادة العلاقات الديبلوماسية المقطوعة منذ العام 2016. وكلا اللقائين كانا في بكين!.
ومنذ توقيع الإتفاق السعودي ـ الإيراني حتی اليوم، شهدت المنطقة تطورات متسارعة غير متوقعة، أو علی الأقل، أدهشت المراقبين بسرعتها ومستواها: زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الرسمية إلی الإمارات. عودة العلاقات بين الإمارات وقطر. زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى الرياض وقيام نظيره السعودي فيصل بن فرحان بزيارة دمشق. ثمة معلومات تتحدث عن دعوة ربما تُوجه للرئيس السوري لزيارة السعودية أو للمشاركة في مؤتمر القمة العربية الشهر المقبل. زيارة وفد سعودي إلى صنعاء واجتماعه بقادة في حركة أنصار الله الحوثية المحظورة سعودياً وحديث عن الإتفاق علی أجندة تفاهمات لإنهاء الحرب اليمنية والذهاب إلى تفاهم يمني ـ يمني بمساعدة إيرانية ـ عُمانية مشتركة. وليس بعيداً عن ذلك، تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة تظاهرات مناهضة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الأمر الذي جعل نجل الأخير يتهم المخابرات المركزية الأمريكية بتأزيم الموقف في الشارع الإسرائيلي للإطاحة بحكومة والده لمصلحة إيران “علی حد تعبيره”!.
في الكفة الأخری؛ شكّلت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب زيارته إلى بكين علامة فارقة لم نسمع بها من قبل حيال العملة الأمريكية والقرار الأوروبي والهيمنة الامريكية وملف حلف شمال الاطلسي (الناتو). في مقابل ذلك، اعتراف رئيس جهاز المخابرات الامريكية (سي آي إيه) ويليام بيرنز بتوجه المجتمع الدولي نحو قطبية متعددة وليس كما كان المحافظون الجدد يراهنون علی القطبية الأمريكية المُهيمنة علی العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولا يجب أن نتغاضى عن أبعاد مثول رئيس أمريكي سابق أمام المحكمة في سابقة لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل.
ما الذي يحصل؟ وما هي مآلات هذه التطورات؟ وهل حدودها إقليمية بحتة؟ أم أنها امتداد لتطورات دولية؟ ومن المستفيد منها؟ وبأي خانة ستصب؟.
أنا لا أنسجم مع التصور القائل بأفول النجم الأمريكي لأن واشنطن ما زالت تمتلك عوامل القوة في الإقتصاد والسياسة والأمن؛ لكن الأكيد أنها لم تعد كما كانت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وهذه الإرهاصات التي نلمسها حالياً في السياسة والاقتصاد والأمن في مواقع متعددة من العالم هي من تداعيات الإنحدار في الدور الأمريكي. البعض يعتقد أن مرد ذلك يرجع إلی ضعف حكومة الرئيس جو بايدن. هذا صحيح لكن يجب علينا التذكير أن الرئيس السابق دونالد ترامب، برغم خطابه الشعبوي، (وكأنه يريد أن يعيد سرديات عنترة بن شداد في الحماسة)، قرر قبل سنوات السكوت أو التغاضی عن إستهداف الإيرانيين طائرة أمريكية في مضيق هرمز من دون أن يرد عليهم.
ولعل الإعتقاد السائد أن واشنطن ما زالت تملك من عناصر القوة ما يجعلها تفرض هيمنتها علی العالم كما تفعل حالياً مع أوروبا؛ لكن موقف ماكرون بعد زيارته للصين أظهر أن السياسة الأمريكية مع أوروبا لا يمكن أن تستمر في السياق التاريخي نفسه لأنها لم تعد اللاعب الوحيد في العالم. وثمة مقولة أن حيوان الديناصور – حسب علماء الجيولوجيا – لم يقتله ضعفه وإنما قتلته قوته..
إستناداً إلی ذلك وإلى عوامل جيوسياسية دولية، تفاعلت واشنطن مع المبادرة الصينية التي أعطت الضوء الأخضر للرئيس الصيني في إجتماع قمة العشرين في أندونيسيا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي لطرح مبادرة التقارب السعودي ـ الإيراني من أجل تهدئة الموقف في منطقة الشرق الأوسط والخليج، بوصفها منطقة حيوية جداً للصين.
ومن يُراقب حركة الجسد وتفاصيل الإستقبال الذي أقامه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للرئيس الأمريكي عند مدخل قصر المؤتمرات في جدة، وما أعقب ذلك من تطورات على صعيد العلاقة الأمريكية السعودية، يخلص إلى أن السعودية قررت ـ بألطف تعبير ـ أن تتمايز عن الموقف الأمريكي، إن لم تكن تريد أن تذهب أبعد من ذلك بكثير، فإعادة العلاقات مع ايران، برغم العقوبات الأمريكية؛ واستقبال وزير خارجية سوريا، برغم عقوبات “قانون قيصر” الأمريكية والذهاب إلى صنعاء خارج إطار المبعوث الأمريكي في الشأن اليمني، هذه كلها تشي أن الرياض قرأت الفاتحة علی “صفقة قرن” جديدة مع طهران في مجلس لم تحضره واشنطن!
هل نحن أمام تبلور نظام إقليمي جديد؟
أعتقد نعم. وإذا لم يكن كذلك فالأكيد أنها ارهاصات هذا النظام بعدما أدرك اللاعبون في المنطقة أن وضع كل البيض في السلة الأمريكية عملية لا يمكن المراهنة عليها؛ وأن التفاهمات الإقليمية مهما كانت ضريبتها، فإنها تبقى أفضل الخيارات لتعزيز الثقة ودعم الأمن والإستقرار في المنطقة.

المصدر:محمد صالح صدقيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!