النبطية تقرأ في كتاب «وجوهٌ بلونِ الرماد» لـ وداد يونس
صدى وادي التيم – ثقافة/
قراءةٌ في كتاب «وجوهٌ بلونِ الرّماد» لوداد يونس هو عنوان الأمسية التي أقامتها جمعيّة تقدّم المرأة في النبطية والمجلس الثقافي للبنان الجنوبيّ في قاعة “الرائدة سلمى علي أحمد” في مركز تقدّم المرأة في النبطيّة، بمشاركة الكاتب والإعلامي نصري الصايغ والكاتبة يسرى مقدّم والدكتورة سناء صبّاح نائبة رئيسة جمعيّة تقدّم المرأة وحضور حشد من الفاعليات الثقافية والتربوية والاجتماعية.
تحدث أولاً الإعلامي كامل جابر باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، فقال:
“كتابُ وداد “الرماديّ” هذا، أغواني هو الآخرُ، بألوانِهِ المختلفة غير الرماديّةِ، السرديّةِ والتوثيقيّة والتاريخيّة، الجامعةِ بين اللغة الفصحى واللغةِ المحكيّة المحبّبة، لإيصال المضمون بأشواقه كلِّها، فحفّزني على مناغاةِ مكنونِ كتابها السرديِّ التوثيقيِّ الأول، المتضمّن مشاهدَ منوّعةً من حياةِ الطفولةِ والذكرياتِ، فالمراهقةِ والشبابِ، الحياةِ الزوجيّةِ والعائليّة والعمليّة والتعليميّة، تقصّها علينا بما يشبه “الكنكنة”، والكنكنة هنا بعيدةٌ تمامَ البعدِ عن أجواء القيل والقال، بل هي أدنى إلى جلسات الكانونة، موقدِ النارِ، ما بين الكانونين الأولِ والثاني، وما يدور فيها وحولَها من أحاديثَ مشوّقةٍ وأحداثٍ مرّت بلطف أو شقاء، من الذاكرة والتاريخ، بهدوء تامٍّ بعيد عن الضجيج، بل هو أقربُ إلى الهمس، ما يزيدُ في حلاوة السرد حلاوةً وعذوبة.
في كتابها تفصل وداد يونس بين مشهدٍ وآخرٍ لا يتعدى الصفحتين أو الثلاث بعنوان جديد، فيزيح أسلوبُها عن كاهلِكَ المشاهدَ المطوّلة، ويترك لك أن تأخذ نفساً عميقاً قبل المتابعة، أو أن تشعلَ لفافةٍ أكره شخصيًّا مجلسَها، تمجُّ منها شهيقاً وتنتقل إلى الفصل التالي المتمِّم لما سبقَه، الممهّد لما سيليه.
وأكثر ما يلفت بأسلوب الصديقة الكاتبة وداد، أنها تروي مشهدَها مكثّفاً بأسطرٍ قليلة مطرّز بالعامّيّةِ، ثمّ تغادرُهُ بما يكفيها من فكرة وصورة وتوصيف أرادت إيصالَها، وما يتركُ القارئَ بشوقٍ إلى الأكثر، ولو استدعى ذلك إلى الاستفسار منها لاحقاً عمّا جرى بعد ذلك، وقد تردّ بضحكة مجلجلة: “منيح هالقد”.
لم تحكِ وداد يونس في كتابها خبرياتٍ ربما يخالُها البعضُ من بعيد أنّها خبرياتُ حياةِ كاتبتِها، بل اختارتْ محطاتٍ من حياة كلّ واحدة، أنثى أو امرأة، مرت بتجاربَ مشابهةٍ أو مناقضةٍ لتلك التي شكّلت ومضاتِ حياةِ الكاتبةِ، التي كافحت بمساعدةِ آخرينَ من الجنسين، لتحقيقها أو تبديدِ عقباتها وسوادها، من العادات والتقاليد البالية، تعليمِ الذكرِ وحجبِهِ عن الأنثى أو حدِّهِ لأسباب شتى، تزويجِها وليس زواجَها، حريةِ اختياراتِها، ثم الانتقال إلى حياة أخرى في ظل ذكوريةِ ذكرٍ آخر قد يُنصِفُها أو يَنسِفُها، الأمومةِ والعملِ والخيارُ بينهما، ثمّ ما تكابده لأجل أسرتها وعائلتها، القريبة والبعيدة، وانعكاس ظلمِ الحكم والحكّام اللا متساوي والإهمال المتنامي على كلّ مجريات حياتها، أو الحروب والاعتداءات الأمنيّة والعسكريّة التي تلازمُنا ونحن الأقربُ إلى فلسطين، منذ أمد طويل، منذ ما قبل احتلالها، وفوضى الحرب الأهليّة اللبنانيّة، التي أتت بجيوشٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ صديقةٍ وغيرِ صديقةٍ، ومحتلّين إسرائيليين ومن جنسياتٍ مختلفة، ثم ذهبت بهم، ونحن بين هذا أو ذلك، لم يستقرّ لنا مآل أو يهدأْ بال، بل خلصنا إلى شعبٍ محطّم تكسّرت أحلامُه على أعتاب سلطة جائرة، نهبت حياتَه وأموالَه وباعتهُ بسوق النخاسة والعبيد، وفرقتْ شمل عوائله، وباعدت بين طوائفه.. كلُّ هذه المعاني والفِكَر، سنجدها مروية بسلاسة في كتاب “وجوهٌ بلونِ الرّماد” للعزيزة الغالية المحامية وداد يونس”.
وألقت الدكتور سناء صباح كلمة “تقدم المرأة” فقالت:
“اتقدّم بالتهنئة لجميع سيدات وامهات مجتمعنا والعالم بمناسبة يوم المرأة المرأة العالمي كل عام وانتن بألف خير كما يسعدني ان نستضيف اليوم في رحاب جمعية تقدم المرأة الأستاذة المحامية المتميزة وداد يونس والكاتبة الأستاذة يسرى المقدم والكاتب الأستاذ نصري الصايغ.
ان الأستاذة وداد كانت استاذة مادة اللغة الفرنسية في المدرسة التي تعلمت فيها ولسنة واحدة. لقد تركت في ذاكرتي انطباعاً حول الجرأة وحسن المعاملة والإنفتاح الذي وجدتهم فيها. بعد قراءتي لكتاب الأستاذة وداد بعنوان “وجوه بلون الرماد” اذكر مما قرأت هذه الجملة والتي ذكرت في الكتاب “اخافتني نبرة أبي وهو يلوم أمي بقوله: “ما بيكفيني جبنا بنت؟ بتريدي كمان تبعتيها ع البيدر؟”.. ” كم مرة بدي قول بنتك ما بتطلع الإ ع المدرسة أو القبر، اختاري”.
اشارت السيدة وداد من خلال النص الى التمييز بين الذكر والأنثى في سن الطفولة في مجتمع ريفي. هذه العبارات يجب التوقف عندها لانها تظهر لنا انتشار ظاهرة تفضيل إنجاب الذكر على الأنثى فالأنثى في مجتمعنا لا تجد ترحيباً عند قدومها إلى هذه الحياة مثل الذكر، وتبقى تعاني من النظرة السلبية من قبل المجتمع مهما كانت كفاءتها وجدارتها، لا لشيء إلا لأنها أنثى والأم تربي ابنتها لتكون مطيعة خانعة بينما تربي ابنها ليكون مسيطراً تغفر سيئاته وانحرافاته. وبالرغم من الوعي الا أن الأنثى ما زالت تواجه المضايقات والتعصب لحساب الذكر بصفته حامي النسل من الانقراض والحامل للمسؤولية القيم على أهل بيته وذلك بفعل عدم الوعي الثقافي لطبيعة الدور الذي تقوم به الأنثى في المجتمعات. كما وتبين لنا أن الزوج لم يكن لديه المعرفة الكافية بأنه المسؤول عن جنس المولود وفقا لما أثبتته الأبحاث والدراسات العملية.
ان مجتمعاتنا ما زالت شاهدة على سيطرة العادات والتقاليد التي تشمل تصورات خاطئة عن وضع المرأة، مثل تفضيل الذكور على الإناث سواء كان في التعليم وفي تبوء المناصب العليا في مجالات الإدارة والسياسة وفي قيادة حركات النضال وغيرها وغيرها. واستوقفتني ايضاً عبارة “كم مرة لازم قول وعيد، بنتك ما بتطلع من البيت إلاّ ع المدرسة أو ع القبر” هذه المقولة كانت سائدة انذاك، “ما بتطلع الا ع بيت زوجها أو القبر”.
ان والد الأستاذة وداد كان يؤمن بتعليم الأنثى في وقت حرمت فيه الأنثى من فرصة التعلم لذلك استبدل “كلمة الزواج” بالتعليم وهذا يدل على انفتاحة ومساواة الأنثى والذكر في مجال التعلم. كما وتبين لنا موقفه عندما اصطحب ابنته وداد الى المدرسة الإبتدائية لتسجيلها وكيف كان موقفه عندما رفضت المديرة طلبه مبررة ذلك بانها لم تبلغ السن القانونية الذي يسمح لها بدخول المدرسة فما كان منه الا ان ذهب الى جاره النجار وطلب منه ان يصنع لإبنته مقعدا خشبياً شبيهاً بمقاعد المدرسة. عندها عاد الى المدرسة ودخل الصف وقال للمعلمة “بلّغي المديرة بأن مشكلة ابنتي قد حلت”. كان لهذا الموقف الذي اتخده والد الأستاذة وداد اثراً كبيراً في محيطه الإجتماعي وفي بناء شخصية ابنته.
وبعد دراسة المرحلة الإبتدائية تابعت الطالبة وداد الدراسة في المرحلة المتوسطة في بلدة الخيام بعد ان تحولت مدرسة الصبيان الى تكميلية مختلطة. وبدلا من تبقى في بلدتها راودتها فكرة الإلتحاق بدار المعلمين في بيروت وكان لها ما ارادت بعد موافقة والدها ومن خوفه على ابنته وحرصه عليها طلب منها الإحتفاظ بسكين من اي اذى قد يصيبها. تجدر الإشارة الى ان والدتها شجعتها على الإلتحاق بدار المعلمين بعد ان اتصلت بأبنها المقيم في فرنسا سراً – طالبة منه اقناع والده بالأمر- هذا يبين لنا ان والدتها الكريمة كانت تتمتع بالعقلانية لمعرفتها بأهمية دور المرأة في التربية والتعليم. ومن المعروف ان للمرأة الدور الأكبر في تربية الأطفال وتوجيههم لبناء مستقبل أفضل لهم.
كما استوقفتني مناسبة زواج الأستاذة وداد حيث تمّت في قاعة مدرسة المربيّة الرائدة الأستاذة فريحة الحاج علي وبناءا لرغبتها. اقيم الإحتفال في احدى قاعات المدرسة وكان مهرها لوحة زيتيّة علقت على احدى جدرانها من اعمال خطيبها انذاك – الفنان المبدع زعل سلوم رحمه الله-. والوجه الآخر للأستاذة هي مناضلة وطنية بامتياز حيث انتمت انذاك الى الحزب الشيوعي اللبناني كما شاركت بالعديد من المظاهرات استجابة لرغبتها الوطنية وتلبية لضميرها الحي. ولكن الأستاذة وداد قد فشلت في الدورة التدريبة العسكرية والسبب هو اشعال سيكارتها.
ان الأستاذة وداد تناولت بكتابها هذا العديد من المشاكل الإجتماعية التي عانينا منها وما زلنا نعاني: الأرث، الزواج المبكر والزواج من غير طائفة، صعوبة الطلاق عند احد الأديان، هجرة الأبناء ووجع الأهل لفراقهم، قانون الأحوال الشخصية اضافة الى الطائفية والمحسوبيّة والولاء الأعمى للزعيم، والحرب الأهلية التي عانت منها كغيرها من ابناء وبنات الشعب اللبناني. كل هذه المشاكل تطرقت اليها في كتابها هذا باسلوب شيق. عبر كلّ قصة قصيرة لا تتجاوز الصفحتين في كتابها عالجت موضوعاً من الماضيع التي طرحتها في هذا الكتاب.
هذا الكتاب هو موسوعة تم اختصارها بـ 244 صفحة تناولت جوانب الحياة كافة (الإقتصادية، الإجتماعية، السياسية والتربوية على امتداد حقبة من الزمن باسلوب سهل بعيد عن المفردات اللغوية الغير مألوفة.
ان معاناة الأستاذة وداد هي معاناة كل فرد منا. عند قراءتي لهذا الكتاب احسست اني أنا من كتبه وان فعلتم ستشعرون ما شعرت به. باسمي وباسم رئيسة وعضوات جمعية تقدم المرأة نهنيء السيدة وداد يونس سلوم على كتابها المميز متمني لها دوام الصحة والتألق”.
بعدها تحدثت الكاتبة يسرى مقدّم، وقالت في نصها:
“على غفلة منها، باغتت الذاكرة الماكرة، صاحبة الكتاب، كانت أمضت نهاراً شاقاً حافلاً بخليط من الاستذكارات، لذا استلقت وداد على المقعد، فور بلوغها البيت، وراحت تطارح أسئلة عالقة ومهجورة، قبل أن يغلبها النعاس وتغفو “دون أن يراودها أيّ احتمال بأن ذاكرتها ستكبر لاحقاً، من النبش في طياتها لتعيد الحياة لأحداث ومشاهد ووقائع كان تهيّأ لها، خطأ، أنّها ذهبت مع ما ذهب من أيام عمرها إلى عالم النسيان”.
ولحسن الصدف، أن الذاكرة الحروف أفاقت بغتة من سباتها العميق، بتحريض من مشهد بوابات المدينة الرياضية (مقابل دار المعلمين، حيث تخرجت وداد) تلك “البوابات المثقوبة بكل أنواع الرصاص والمغلّفة بالعناكب والأشواك” عادت، في عينيّ صاحبة الذكريات نظيفة، مجلوّة ولامعة كسابق عهدها في أواخر الستينيّات، لتتوالى بعدها عمليات النبش، وليتاح لنا أن نغنم متعة تصفّح الكتاب المعنوَن “وجوه بلون الرماد” الصادر حديثاً عن “بيسان للنشر والتوزيع” حيث تتداعى الذكريات المسرودة بلسان الشخصيّات، لكن بقلم وداد الحريصة على الموضوعيّة وعلى دور الشاهد الأمين حيث يغيب تماماً، استبداد الراوي العليم.
وتطلق حرية التعبير لسكان النصوص في عيشهم وحواراتهم وآرائهم ورؤاهم على اختلاف مشاربهم وفئاتهم وطبقاتهم، وهو ما يحتسب استثناءً نادراً تفتقر إليه معظم كتب الذكريات. ذكريات تخصّ الفرد والجماعة، تنداح على امتداد رقعة سرديّة تجاوزت المئتي صفحة بقليل، ويتخالط فيها الخاص بالعام بمشيئة ذاكرة مستعادة مكتظّة بوجوه شتّى، تعقد جدلياً ما بين الذاتي والموضوعيّ، وهي ذاكرة مشحونة بالرغبة في التفلّت من عتمتها، أو ربّما في سباتها لتجاهر بما طال، احتباس الحديث عنه من أحوال “الاجتماع والسياسة والاقتصاد والعائلة التي خاضت الكثير من المرارات والآلام والقلق والقهر والغضب والعنف والفقدان خلال الامتداد الزمنيّ الذي تتناوله هذه النصوص”.
وفيما نجول بين نصوص رشيقة، ذكيّة ورائية، تفصح حيناً وتلمح أحياناً، فالإيحاء بالشيء أجمل من الشيء نفسه، يتخلّق لنا ونحن نستفظع الارتكابات الوحشيّة للطغمة السياسيّة الحاكمة، أقول يتخلّق لنا أن الماضي يستعيد وجوهه الكالحة في حاضر تحيل عليه، في نزاعاته وصراعاته، في عنفه المهول، وديكتاتوريته الظلومة، كما في الفساد الفاجر، الوقح، المتجلّي في ما انزلق إليه زعماء الطوائف من نهب موصوف ومن إحكام صارم لسيطرتهم على مؤسّسات الدولة الخربة كأن ما سبق أن شهدناه في الماضي كان مجرد تمرينات خجولة قياساً على ما نشهده الآن، هذا الآن الذي يميت الله الأخلاق والضمير وكل ما يتصل بإنسانية الإنسان.
شكراً وداد. كتابك أعادنا إلى زمن الحرب الأهلية، ولك في ذلك ثواب التنبيه والتذكير. ربما كان في إعادة قراءة ذلك الزمن المشؤوم وما سبقه من أزمنة التقاتل والتباغض والفتن المشتعلة. بعين الموضوعيّة والمراجعة النقديّة، ما يتيح قولاً صريحاً صادقاً وشجاعاً وأميناً للحقيقة التي تواطأ الجميع على تغييبها”.
وتحدث الكاتب نصري الصايغ عن الكتاب، فقال:
“كيف نعود إلى الماضي؟ الماضي ليس محايداً. لا ينظر إلى الأحداث بعين واحدة. العودة إليه، انتقائية. العائد إلى الماضي يراه كما يريد. يستعيده انتقائياً. لذا، الماضي ليس ماضياً، هو ماض قادم من الآن. يقرأ انتقائياً. هو إملاء منا، وليس استيحاء منه. فلكل منا ماضيه، يطمئن إلى صحته، ويتذوق حلاوته ومرارته.
إذاً، الماضي هو تأليف منا على هوانا. هكذا هو التاريخ بأصوات وكتابات مختلفة وسرابيّة. إنّما هذه المرّة، في كتاب “وجوه بلون الرماد” ليس الماضي لغة مغايرة. لم نعد إلى الماضي كأحداث، بل كحياة. تقرأه، كأنّك تعيشه أمس والآن. ومن يلتصق بالحياة، يكسب الماضي صدقيّة وحميميّة. ماضي الكاتبة هنا، ليس تاريخاً، ليس تسجيلاً، إنّه استعادة حياة خاصّة وعامّة، عبر مشهديّات، لا ثرثرة فيها، ولا ادّعاء، ولا لفخر أو مذمّة. علماً، أنّ المشهد الأول، قد يفصح عن مأساة الحرب وبكائيّاتها. لم يكن النص كذلك أبداً. الحرب هنا حضور بلا فجائعيّة، بلا دماء تثبر. الحاضر الدائم في الكتاب، هو الكاتبة، من دون ادّعاء، بل ببساطة مذهلة، ومشاعر منضبطة، تأتي بسرعة من الحرب، من دون فجائعيّة. عن الناس، عن التهجير، عن القتل، عن العائلة، عن الذهاب إلى المدرسة، عن فتاة تنضج، عن أب يريد من أبنته أن تكون حبيسة المنزل. (خوفاً من عار مزمن). الكاتبة وداد، تضع عواطفها جانباً، ترسم الصورة، أنت تقرأها، فتجد أنّ السيرة تكمل مسيرتها، من الصغر حتى النضج والنضال والعمل والمعاناة حتى اكتمال العدة، ليكون هذا الكتاب سيرة ميسّرة حيث الكاتبة وداد، تكتم حزنها، تلتفّ على الزمن، منغمسة في الواقع وعيناها على البعيد الآتي.
أبدأ من حزن مزمن، إلى فرح غير مسبوق، الناس، يحطّمون أقفال الزنازين في معتقل الخيام، تزغرد النسوة، تدمع عينا الأم فرحاً، وتذهب إلى غرفتها. صباحاً، تدخل ابنتها مع القهوة، لم ترتشف الأمّ رائحة البن، لم تكن هناك، عادت، سريرها فارغ.. يا الله هذا حدث من دون إضفاء مشاعر. ثمّ، وصف للعائدين بعيد التحرير. الآلاف هناك، محجّتهم الجنوب، كان علم لبنان يلوح. جنود الجيش عادوا. ثم صوت جديد: “عمتو… كتير حلون هون.. فيني آخذ فوتو؟”. وهذا ما أسمّيه، إنّه تاريخ مختلف. الوصف منبّه منحاز إلى الحياة، وليس إلى تكرار تصوير الأحداث.
حكايات السجناء والمعتقلين في الخيام فادحة. تنتهي بـ” خالتو، خالتو، خدينا عند ستّي”. إذاً نحن إزاء كتابة تختلف عن سابقاتها. الموت الجسيم، ليس هو كلّ الحياة. الحياة ماضياً برغم اتّساعها، لا تشبه أبداً الحياة، التي وهي تنسحب، يطلّ منها مستقبل زمنيّ وإنسانيّ آخر.
القذيفة ذاكرة باقية. القذيفة أصابت البيت وقلب أمي. والأم في ذلك الزمن، خاضعة للّوم، تختار الصمت. الأب، من سلالة المنع والحرام والخوف على الأنثى ومنها “كم مرّة لازم قول وعيد، بنتك ما بتطلع من البيت إلا عالمدرسة أو القبر، اختاري”.
“ملّلا خيار” ومعاناة الأنثى حزن وخوف وحرمان. هكذا كانت الأنثى، عليها أن تطيع، أن تختبئ، أن تكذب الأبنة، أن تتسلّل. أن تكون الخلسة فرحتها. في المدرسة، في البيت، في الحارة، ثم في الجامعة… صورة الأب الصارمة، نعوّض عنها لهفته لتعليم ابنته. كانت مشكلة قبول الفتاة الصغيرة في المدرسة أن لا مقعد لها. الأب حلّ المشكلة. مقعد خشبي من صنع الجار، وصار للفتاة الصغيرة مقعد، لتسمع الألفباء.
الذكوريّة الفائضة، وصلت إلى حدّ أنّ الأب هدّد الأم: “عم تدليليها كتير للبنت. الله يساعدك إذا بتخلّفي بنت تانية هالمرّة”. البنت تساءلت بعد امتناع النوم: “ليه الله ما خلقني صبي متل خيّي”.
وتكرج الرواية الحكائيّة، كرجاً. البيك، “مينو أحمد بيك”. كلام لا أكثر ولا أقل، ولكنه يدل على البعد السياسيّ وعلى نعمة الرفض. ثمّ، يرتبك السياق، كعادة الأيّام، عندما تصبح الأسئلة، عن الحبّ والزواج والحمرة ووين رح عيش، بأيّ بيت من بيوت الضيعة.
المدرسة بيت آخر، الكلام فيه مختلف، استمعوا إلى لامرتين وقصّة موته، إلى غاليلي الذي اكتشف ما لا يرضي الكنيسة، ثمّ، ما العمل لاستكمال الدراسة الثانوية والجامعية.
الكتاب، دعوة إلى السفر. تستعير الفتاة كتاباً من المدرسة للإقلاع بالمخيّلة إلى مجتمعات وفي كلّ زمان. بشرط ألاّ يضبط الأهل والآخرون، سرقة الكتب.
جميل اكتشاف الأمكنة. “الدردارة” أكبر وأجمل من المحيط الهادي. هذه لذة المعرفة المنحازة والطبيعة المذاق.
ثم، كبرت الفتاة، انضمّت والتزمت. محيطها في المدينة عابق بشعارات و”عاشت فلسطين”. صارت الفتاة في بيروت تتقن النضال، من أجل تحقيق عدالة وحرّية وكرامة. إنّه ماض لا يمضي، إنّه ماض حاضر. كلّ تلك الشعارات الجميلة، ذبلت، فلا عادت فلسطين، ولا أحد انتصر غير الخسائر. نحن أمّة الخسائر العظمى، وما زلنا نتبهور. والجديد في خبرة الكاتبة، أنّ هناك مضادات للنسيان، كلّ ما فشلنا فيه، ما زال محفوراً فينا. ولعلّ أهمّ ما عاشته السيدة، أن الصداقات عابرة للأديان والأحزاب والعقائد.
إذا، هذا ليس كتاب ذكريات، ليس سيرة ذاتية، هي مرآة امرأة، حلمت أحلاماً كبيرة. صارت هباءً. من أحلام ذلك الزمن ما يلي: “ما فيه شي تغيّر بعد ما وقفت الحرب إلاّ تيابن لها الزعما”. “بتتذكّري قدّيه حلمنا يصير عنّا دولة قانون وعدالة”. وذات زمن نضالي، راودتها الخيارات، فاختارت الحزب الشيوعيّ، والصور التي أحاطت بها، كانت للينين وتشي غيفارا.
انحازت وغامرت ووزّعت المناشير. خاضت المظاهرات وعرفت رائحة القنابل الدخانيّة. ثمّ، وهذه الطامّة، طردت من المدرسة. وللسخرية مقام أنيق: عنوان ذلك: النضال بمعطف الفرو، وثورة الأميات على ذلك “السخاء السخيف”، من قبل الكبار.
ثم، انتقلت الحرب إلى بيروت ومعظم لبنان، لذا “ناوليني حبّة فاليوم” إلى آخره.
هذه النصوص، المنفصلة، هي متّصلة، الكلام الذي لا يطنب أبداً. لغة مميّزة وسلميّة وحاسمة، ولكنّ العجيب جدّاً والممتع كثيراً، هو هذا الزواج بين اللغة المحكيّة ولغة سبويه… وهذا جديد عليّ وليس سهلاً هذا الزواج، والأهمّ، وأنت تقرأ، لا تعرف أن في آخر النص، يكمن كمين مفاجئ.
مشهد النوم قصير جداً، ولكنّه اختصار لملحمة إنسانيّة، ببضع كلمات، وهذا إعجاز. أمّا التعب والحزن والأرق، فله حصّة دافئة ودامعة “كان أمل أبي بقرب عودته إلى بلدتنا ولو على نعش”، أمنية مأساويّة بلا تفجّع. حزن يزرع في القلب، زرع ينمو حسرة.
أكتفي بهذا، لأقول، الكاتبة، لم تكتب سيرتها وحدها، كتبت سيرة حياة حقبة، كانت فيها شاهدة ومشاركة ومعاينة ومناضلة. واختلس فسحة لأشهد، أن البناية التي دمّرت في الصنايع كانت بقنبلة إسرائيليّة فراغيّة، كان ابني الصغير نصري، يقيم فيها يوميّاً، من الصباح إلى العصر.. ونجا. في النص، جملة تؤلمني كثيراً: “فإذا بابني الذي لم يكن يتجاوز السادسة يوشوشني: أمّي، أنا بحب صير عصفور لروح عالجنة عند ربن لعمو ابو عمر وخالتو ام عمر”.
هل خرجت عن الموضوع؟ طبعاً. لم التزم بقيود المراجعة والنقد والتقييم، الكتاب أخذني إلى سيرة امرأة، روت حكاياتها من دون شحنات انفعاليّة.
عرفت الكثير من طرق الكتابة وأساليب التعبير وفنون الكلام إلاّ “وجوه بلون الرماد”. إنّه مفاجأة لي. لم يحدث أن قرأت عن ماض بصيغة الحياة. أو بأسلوب إعادة الحياة الحقيقيّة. الكاتبة تكتم نسجها اللغوي، تكشفه أحياناً بعامّيّة سلسلة لا تلجأ إلى الفصحى. بل تبثّ فيها جمالاً وحيويّة. وهذا جديد وصعب ومبتكر. يأتي الكلام العامّيّ بليغاً ومعبّراً وذكيّاً، أكثر من صيغ الفصحى. وهذا جديد عليّ. هكذا، وبهذا الأسلوب، تعبر الحياة إلى الماضي، الماضي عندها، ليس تاريخاً ووصفاً، هو استعادة للحدث والزمن والمكان والناس، ولكل الانشغالات والأحلام والآلام.. شكراً وداد”.
وكانت كلمة شكر لصاحبة الكتاب. ثم وقعت نسخاً من كتابها للحاضرين.
تصوير:
علي مزرعاني
مصطفى الحمود
المختار محمد بيطار
* المصدر:كامل جابر hawalb.com