السّكَّر المالح

 

السّكَّر المالح

ألرأي الثقافية – وداد طه
عاشت بهدوء. سيّدةٌ من غموض وشيءٍ كالأثير، لا هي عجوز ولا لها عنفوان امرأة، لم تكن زوجة أحد، لم نسمع أنين طفل من شبّاك بيتها الورديّ، نَمشاء مائلة إلى البياض، بشفتين دقيقتين، وعينين لامعتين، كأنّ أسراراً اختزنت فيهما، تمشي بهدوء ولكن بخطوات متقاربة، تجعلها تبدو مستعجلة نوعاً ما، كنتُ طفلة وكنت أراقبها وهي تغدو إلى عملها صباحاً ولا تعود حتى المساء.

وذات ليل، هرع الحيّ كلّه على أصوات تكسير صحون، وقرقعة أوانٍ، وعويل، عويل امرأة تتطاير صيحاتها أعلى من تلك الأغراض التي كانت ترمي بها إلى الشّارع، توقّفنا أمام بابها وهي تتناول قطع الأثاث والملابس وترجم بها حظّها. كانت تلوي وتهذي أو تقول الحقيقة وما زالت صيحاتها ترنّ في أذنيّ حتى اليوم: «تركني. تصوّروا! أعطيه عمري ويدوسه، هل كان عليّ أن أحسب حساب كلّ شيء إلا الحبّ؟ ارجموني هيا.. تعالوا لقد أحببت، أجل عشت معه بالحبّ، وكنت لأختار أن أظلّ عشيقته عمري كلّه، بعيداً من دنياكم الغبيّة هذه، لكنّه بعد هذا العمر كلّه يتركني، آه يا عمري أين ضيّعتك!».

تراجعنا عن بكائها وسحبتني أمّي من يدي، لكنّ عينَيّ بقيتا هناك على ثوبها الأملس الحزين وانكسارها المدوّي، ورأيتهما تتعلّقان بي، فانفلتُّ من يدي أمي وهرولتُ إلى أنينها، تناولتُ إطاراً عن الأرض، كانت هي فيه، وكان إلى جانبها رجل، ناولتُها الإطار، نظرتُ في عينيها الصّغيرتين ومسحتُ دمعة مكحولة من ليلهما، ارتخت هي وانسكبت أمامي كشلال، أردتُ أن أحضنها ولكن أمي عادت وسحبتني من يدي، فتركت عينَيّ عندها وهي تركت عينيها فيّ. مضت أيّام وأنا أرقب شبّاكها الورديّ من بيتنا المقابل لبيتها، لكنّ شبّاكها بقي مغلقاً وأنا بقيت أنتظر.

لا أعلم لِمَ أذكرها الآن وهنا. أمام إبريق الشّاي الغبيّ هذا. ولِمَ تذكّرني حبّات السّكّر بدموعها. سيأتي غسّان بعد قليل. عليّ أن أغادر قبل أن يصل. أهبط السلالم ببطء غير متعمّد، لا أستطيع أن أتنفّس، يخنقني هذا الهواء اللزج، أشعر أنّني أسير في الفراغ، أخشى ظلّي الممتدّ فِيّ فأكاد أقع على وجهي، أنا التي صرتُ مساحة لا تتعدى حلماً وكثيراً من الخيبات. يرنّ هاتفي وتخاطبني «نغم» وحيدتي ووحدتي، أبتسم لها بعجزٍ وأؤكد أنني في طريقي إليها كالرّيح.. هل قلت الرّيح؟ أضحك لأنني لطالما ردّدتُ أنّني في الحبّ امرأة من نار وريح.. ثم اكتشفت أنّني لا شيء ولا أحد، وأنّني كمن فقدَ يده لكنّه يتوهّم أنه هو ما زال الشّخص ذاته.

كأنّ حبّات السّكّر التي أضعها في إبريق الشّاي لأعرف إن كان غسّان يخونني حين يسخّن فيه ماءً ليغتسل، قد ذابت في عيني، تسحقني دمعتي المكحولة وأعبر الطريق.


وداد طه =كاتبة فلسطينية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى