جريمة أنصار: القضاء يخسر ثقة الناس مجدداً

صدى وادي التيم-أمن وقضاء/

 

في كتابه الشّهير “المراقبة والعقاب – ولادة السّجن” المنشور في سبعينيات القرن الماضي، قدّم المفكّر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ستة ضوابط لضمان أن تكون العقوبة مؤثرة، وتتّصف بالاعتدال في مواجهة الجرائم والمجرمين، رابعها نصَّ على: “أن المجرم ليس وحده هدف العقوبة، ولكن العقوبة بها علامات عديدة موجهة لأفراد المجتمع كي يمتنعوا عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، ويدركوا أن العقوبة التي يقضيها المجرم إنما هي تعويض يدفعه لكلٍ من مواطني مجتمعه، ثمنًا للجريمة التي أضرت بهم جميعًا”. لعلّ في تقديمه هذا لفحوى العقاب كمدخل للعدالة والرادع الأول للجريمة في العالم المعاصر، لخّص فوكو، أحد الأدوار الأساسيّة للمشرعين والقضاة والناطقين بالعقوبات. هذا الدور المبدئي الذي يتقاعس بعض أهل القضاء اللبناني منذ سنوات عن أدائه، وما ترتب عنه من اختلال اجتماعي وتفلت أمني ونزعة للجريمة، لسهولة الإفلات من العقاب.

تأجيل مستمر

الأمر الذي ثَبُتَ جليًّا في مسار قضيّة مقتل كل من تالا وريما ومنال صفاوي ووالدتهنّ باسمة عبّاس، في بلدة أنصار جنوبي لبنان، بعد عام تقريبًا. فمنذ إحالته إلى القضاء، شَهد الملف تأجيلات ومماطلات شتّى لفتحه، مقرونةً بغضب شعبي عمومي من جهة، وضيق صدر الأهالي الذين يستعجلون إصدار الحكم المبرم بحقّ المتهمين بقتل النسوة الأربعة، حسن فياض (لبناني) وحسن الغنّاش (سوري)، من جهة أخرى. ولما كان الجوّ القضائي المشحون راهنًا قد أماط اللثام عن تضعضع خطير في منظومة القانون والعدالة، فإن تبعاته باتت محسوسة ومرئية.

سنة كاملة مرّت على جريمة أنصار التي نُفذت في 3 آذار 2022، وبينما انتشرت يومها شائعات كثيرة مفادها هروب الأمّ وبناتها إلى خارج لبنان، انكشفت الجريمة في 25 آذار 2022، وتبيّن أنّ المجنيّ عليهن، قد قُتلن ودُفنّ مطمورات بالإسمنت في مغارة تقع على حدود بلدة أنصار جنوب لبنان. وبعد نقل القضيّة من الجنوب إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، أصدر الأخير وبعد أربعة أشهر (12 تموز 2022) قراره الظنيّ، الذي انتهى إلى اعتبار فياض والغنّاش قد أقدما بعد التخطيط والتجهيز، على قتل البنات ووالدتهنّ بإطلاق عيارات ناريّ عليهن، بسلاح صيد وآخر حربي غير مُرخص. الأمر الذي يؤلّف جرم القتل العمد المنصوص عنه في قانون العقوبات بالمادة 549. كما ظنّ بهما بموجب المادتين 72 و73 من قانون الأسلحة لحيازتهما أسلحة غير مرخصّة.

وفي 27 تموز 2022، صادقت الهيئة الاتهاميّة في بيروت على القرار الظنيّ متهمةً بالمدعى عليهما بالجرائم نفسها. وبعدها أحيل الملف إلى محكمة الجنايات في بيروت التي عقدت أولى جلساتها في تاريخ 12 كانون الأول 2022، وأرجأتها بسبب عدم سوق المتهمين إلى المحكمة. وبعدها جلسة في 18 كانون الثاني من العام الجاري والتّي قد أرجئت إلى الأمس، إمهالاً لوكيل المتهم الغنّاش إيدي رزق للاطّلاع على الملف. والمشترك بين مختلف هذه الجلسات جوّ التوتر والغضب وضيق صدر الأهالي والقاضي على حدّ سواء، حيث جرى سابقًا تلاسن بين والد باسمة عبّاس والقاضي، على خلفية التباطؤ في إصدار الحكم، وفي الجلسة الأخيرة تفاقم التوتر ليستحيل خلافًا كبيرًا بين والد الضحايا والقاضي سامي صدقي.

سجال في قاعة المحكمة

ففيما لم تشذّ جلسة الأمس 6 آذار، في محكمة الجنايات في بيروت عن سابقاتها، وانتهت بقرار تأجيلها إلى 10 أيّار، لتعيين طبيب شرعي نفسي لمعاينة المتهم فياض، ومن ثم لاحقًا صدر قرار إرجائها لشهر حزيران، ما أثار حفيظة الأهالي الذين أخذوا يصرخون داخل قاعة المحكمة غضباً من قرار التأجيل وما أسموه “العدالة البطيئة”، فما كان من القاضي صدقي، وتداركًا للغضب، أن اتخذ قراراً بتوقيف والد الفتيات وطليق الأمّ، وخالتهنّ، لمدّة 24 ساعة. قرار لم يلبث أن تراجع عنه بعد نحو ساعة بعد ما تلقيه لعدد من الاتصالات، حسب ما أشارت مصادر “المدن”.

وفي التفاصيل، يروي زكريا صفاوي -والد الضحايا- ما جرى في المحكمة لـ”المدن”، قائلاً: “بُعيد الاعتكاف القضائي والتأجيلات المستمرة والمماطلة في إصدار الحكم والتّي استنزفت قدرتنا على ضبط النفس، ولدى إعلان القاضي تأجيل الجلسة لمرة ثانية، لتعيين طبيب نفسي للمجرم، الذي قتل بناتي بدمٍ بارد وخدع محققي قوى الأمن مدّة لا يُستهان بها أثناء فترة التفتيش عن المغدورات، للتنصل من جريمته.. اليوم يطلب طبيباً نفسياً؟ فتقدمت خطوات قليلة باتجاه قوس المحكمة وقلت “خاف الله.. حرام عليك”، فيما علا صوت أمل عبّاس خالة الضحايا قائلةً “نحنا يلي بدنا طبيب نفسي”، والتّي غابت عن وعيها فورًا. فما كان من القاضي إلا مناداتي قائلاً “قرب لعندي وليه..”، وظانًا أنه سيبرر لي هذا التأجيل، فوجئت به يرفع يده باتجاهي لضربي، فحاولت صدّه. فأمسك فورًا بالميكروفون وضربني به، وأمر العسكري باقتيادنا أنا وأمل وتوقيفنا 24 ساعة”.

وفيما أشار صفاوي إلا أنه لم يعلق آماله على هذه الجلسة كثيرًا، وقائلاً إن لم تتحقق العدالة فسنأخذ حقنا بيدنا، وذكر: “في الجلسة أمر بتعيين طبيب نفسي لفياض السّليم، وبعدها قال القاضي أنه عيّن الطبيب للغناش، وهذا ما استغربناه. سنة مرّت على مقتل بناتي وأنا أريد العدالة لهن ولوالدتهن لا أكثر ولا أقلّ”. وأكدّ أن القاضي صدقي ليس متعاونًا أبدًا، مشيرًا لتخوفه من أن يكون القضاء يحاول أن يجد للمجرمين “تخريجة” لتبرئتهما. وفيما خرج الأهالي بعد ساعة من النزاع والتوتر والإفراج عن الأب والخالة، بعد تراجع صدقي عن قراره، متوعدين بأخذ حقهم بيدهم، وبطلب رد القاضي صدقي عن النظر في هذه القضية.

القضيّة والرأي العام

وليست المرة الأولى التّي يتصدر اسم القاضي صدقي عناوين الصحف، ومحرك البحث فيها، إذ أن القاضي معروف حسب ما أشارت مصادر قضائية لـ”المدن” بضيق صدره وانفعالاته المباغتة في المحكمة، ولدى حصول أي حركة غير مستحبة. ففي كانون الثاني 2020 قام القاضي بطرد المحامي الثمانيني مالك عويدات من قاعة المحكمة، على خلفية تحدثه بصوت مرتفع بسبب سمعه الضعيف، ما دفع نقابة المحامين في بيروت ممثلة بالنائب ملحم خلف إلى مقاطعة جلساته لعدّة أسابيع.

وفيما هزّت الجريمة المجتمع اللبناني منذ حوالى السّنة، عادت القضيّة أمس لتلفت نظر الرأي العام اللبناني والحقوقيين ونشطاء التواصل الاجتماعي، وتؤجج حالة من الغضب العارم. فبالتزامن مع الجلسة وما بعدها، راجت المطالبات والتّمنيات على القضاء والقاضي بتحمل مسؤولياته تجاه الضحايا وتحقيق العدالة لهنّ. وفيما اختلفت الآراء بين من أيّد خيار “الثأر” تحت مقولة “القاتل يُقتل”، والآراء القانونيّة التّي اعتبرت أن قرار القاضي غير صائب في هذا السّياق، وخصوصاً في هذه الجريمة الحساسة وبملابساتها المثيرة للجدّل.

وفي هذا السّياق، يُشير المحامي ومنسق اللجنة القانونية بالمرصد الشعبي لمكافحة الفساد، جاد طعمة، في حديثه مع “المدن”، إلى أن ملابسات السّجال ومسار القضيّة يوحي لحدّ ما بتقاعس ممنهج ومماطلة ملتبسة ومستنكرة. الأمر الذي اعتبره لا يصبّ في مصلحة العدالة والغاية منها، مؤكدًا أن طرح فكرة “أخذ الحق باليد” هو أمر خطير جدًا على الانضباط الاجتماعي والأسس الأمنية. ووفق طعمة فإن “قاضي الحكم، يجب أن يتسمّ بضبط النفس ورحابة الصدر والقدرة على استيعاب ردود الفعل باختلافها، ويأخذ بالاعتبار تأجج الغضب والحزن لدى أهالي الضحايا، واستعجالهم لعقاب المجرمين اللذين ارتكبا جريمة أقلّ ما يُقال عنها بالشنيعة”، وأضاف: “يجب تسليط الضوء على مواقع الخلّل القضائي، لا التخوف منها تحت حجة القمع والترهيب. وتعاطي القاضي اتسم علانيةً بشبه فوقية وكيدية، الأمر المستنكر وغير المقبول لقاضي الحكم”.

وفيما اعتبرت غالبية الآراء أن البعض يحاول للآن إيجاد عذر مُحّل لتبرئة المجرمين تارة، بحجة الاضطراب والمرض النفسيّ، وتارة أخرى بالتأجيل المستمر الذي يعرقل ويعطل مسار القضية، ويطمس معالمها لتصير في طيّ النسيان. بينما نصح البعض الآخر أهل الضحايا أن يسقطوا حقهم ظاهريًا عند القضاء، ولدى الإفراج عن المجرمين يقومون بإعدامهم ميدانًا. الأمر الذي يؤشر طرديًا على انحدار محسوس ولافت في ثقة المواطنين بنظامهم القضائي الذين من المفترض عليه النطق باسمهم. هذا الانحدار الذي إن دلّ على شيء، فيدلّ على إفلاس السّلطة على كافة المستويات وتجلٍ واضح للانهيار الشامل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!