جورج جرداق قُلّ للعصافير أن لا تهجرَ أوكارنا …بقلم سلام اللحام

صدى وادي التيم-رأي حر بأقلامكم/

  من الصّعب الحديث عن الأديب اللامع والمفكر المبدع جورج جرداق في ذكراه التّاسعة، وهو النّاسك العاشق للكلمة الّذي تتهيّب في حضرته ،وهو الإمام في الأدب، البليغ في مجالسه ،النّاقد الّلاذع السّاخر لواقع الحال . إنّه المؤمن بقوّة الكلمة ورقّة الشعور، حيث يتوحّد البشر ويرتقون إلى مصاف الإنسانيّة بعيدًا عن الأنانيّة والحقد والكراهيّة والتّناحر القائم حتّى يومنا هذا بين الجماعات والقبائل على أمور دنيويّة سخيفة.

 جورج جرداق ذاك النّاقد الفذّ، الأديب البليغ الّذي جنى ثمار تجاربه من رحم الحياة وأضدادها، فوصّف الحال والواقع بمشهديّة ساخرة لاذعة تجعلك تضحك على أحزانك وتبكي من شدّة همومك. إنّه المتواضع الّذي تنحني أمام قامته وعصارة فكره ولباقة فطنته وحذاقة جملته .إنّه العازف على وتر قلوبنا مع كل خفقة جيّاشة ، وهو الّذي سطّر بيراعه أنشودة المعرفة والثّقافة ،لتزهو في حدائق غنّاء تجتذب بعذوبتها وسلاستها ورشاقتها كلّ عاشق للتّذوق المعرفيّ.

 لقد تسنّى لي أن أعايش جورج جرداق فترة وجيزة، عندما كنت مذيعة في صوت لبنان التّي يعتبرها الأستاذ جورج كما كنت أناديه دائمًا “بيته الثّاني “، وكانت له بصمته الإبداعية في البرامج الصّباحيّة ضمن فقرة “على طريقتي”، كان وجهه مشرقًا بالعلم ونظرته ثاقبة تنمّ عن بصيرة وصفاء قلّ نظيره، كان يأتي مع غروب الشّمس متأبطًا دفاتره والجرائد، قابعًا في البهو ينتظر تارة ضيوفه وطورًا دوره لكي يستطيع أن يسجّل حلقات متتالية من برنامجه. أذكرُ ذات مرّة رآني ممتعضة من تصرّفات إحدى الزّميلات، فبادرني بالسّؤال: ما بك؟ أجبته: “أستاذ جورج لا أدري لماذا النّاس يحبّون الأذيّة ولماذا يسكن الشّر قلوبهم؟ فكانت إجابته:” سلام، يا ابنتي، أرجو منك أن تحافظي على أخلاقك وطيبتك، لا بل يجب أن تتسلّحي بسعة قلبك ، وأطلب منك أن لا تتغير تصرفاتك إرضاءً لأحد ، كوني أنتِ، والزّمن كفيل أن يسقط الأقنعة من حولك “.

 جورج جرداق لا نستطيع أن نختصر حياته في سطور، وهو ابن بلدة مرجعیون الجنوبیّة، حيث تفتّحت عيونه على حب طبيعتها وسهولها  التي یصفها بأنّها “بقعة سکانها عرب حقیقیون ، یتحدّرون من أسر عربیّة عریقة” ، وسط بیئة “من جماعة الفکر والعلم والأدب والشعر” کما کان یعبّر عنها . تأثّر بشقیقه فؤاد الذي شجّعه علی الشّعر والکتابة وأهداه نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب وطلب منه أن یحفظه، وکان يدافع عنه عندما کان یهرب من المدرسة إلی أحضان الطبیعة للتّأمل وحفظ الشعر وقراءة الأدب حيث كان يستظلّ تحت شجرة قريبة من مدرسته، و يقلِّبُ بأنامله صفحات نهج البلاغة وديوان المتنبي ويغرف من معين الّلغة الصّافية ممتلأً منهما قدر ما يشاء.

درس جورج جرداق في قریته، ثم انتقل إلی بیروت ودرس في الکلیّة البطریرکیة وتخرّج منها، عمل في تدریس الأدب العربي والفلسفة العربیة في عدد من کلیات بیروت ، و كتب في العدید من الصحف والمجلات اللبنانیّة والعربیّة. قدم برامج إذاعیّة في عدد من إذاعات لبنان لأکثر من عشرین عاماً.لكنّه  تأثّر کثیرًا بالإمام علي بن أبي طالب واشتهر بکتابات حوله حتی غرق في حب الإمام الذي رأی فیه «صوت العدالة الإنسانیة» ، فعمد في سن مبکرة إلی کتابة موسوعته الشهیرة «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانیة» من خمسة مجلّدات تحت عناوین: «عليّ وحقوق الإنسان»، «بین عليّ والثورة الفرنسیّة»، «عليّ وسقراط»، «عليّ وعصره»، «عليّ والقومیّة العربیّة»، ثم أتبعها بمجلد سادس بعنوان «روائع نهج البلاغة”.

إلی جانب عمله الأدبيّ کتب جورج جرداق عددًا کبیرًا من القصائد الشّعریّة، وألّف الکثیر من الکتب منها : فاغنر والمرأة ، عن الفیلسوف الألماني (ریتشارد فاغنر والموسیقی) وهذا الکتاب أدرجه عمید الأدب العربي طه حسین ضمن لائحة الکتب التی یجب علی طلّاب الدکتوراه في الأدب قراءتها بإمعان، ومن کتبه أیضًا قصور وأکواخ، صلاح الدین وریکاردوس قلب الأسد (روایة غرامیّة تاریخیّة)، نجوم الظهر، عبقریّة العربیة، صبايا ومرايا، وجوه من كرتون ، حدیث الحمار، حکایات. وله العدید من المؤلّفات المسرحیّة والکتابات النقديّة…

 جورج جرداق أيُّها النّاسك العاشق للكلمة والبلاغة، أيُّها العازف على وتر قلوبنا الّذي سطّر بيراعه أنشودة الإنسانيّة جمعاء ، أيّها الحاضر في دنيانا أبدا  قلّ للعصافير :”أن لا تهجر أوكارنا “،ونحن سنبقى نردّد صدى كلماتك الخالدة : “سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعالى أحبُّك الآن أكثر”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى