القضاء اللبناني: موت معلن
صدى وادي التيم – لبنانيات /
لم يكن أحد يتوقع أن يطلق القضاء النار على نفسه. ما يحصل، منذ مدة، يتجاوز النكايات المحلية بأبعادها السياسية والطائفية وحتى التنافس المهني. هو إعدام علني للقضاء وضمّه الى بقية المؤسسات التي بدأت بالسقوط منذ عام 2019.
بدأ المسلسل بسقوط السلطة السياسية وفقدانها الشرعية الشعبية، حتى بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. وسرعان ما جاء انفجار المرفأ ليدمّر السلطة الإدارية والأمنية على مرافق الدولة. وبينهما كان السقوط المدوّي للقطاع المصرفي بشقّيه المالي والنقدي. بقي اللبنانيون يقفون على رِجل واحدة اسمها الأمن، وهو متحقّق بفضل جهود القوى العسكرية والأمنية، لكن الأساس فيه خشية جميع اللبنانيين من فوضى عارمة تقود الى حرب أهلية بأشكال جديدة.
ثمّة بديهيات في بلد كلبنان. التوافق حيلة يستخدمها النظام لتعطيل الدستور، لكنها ليست كذلك طوال الوقت. إذ إن الريبة باتت مبرّرة لدى الجميع. جمهور يرتاب في ما يقوم به حزب الله ومقاومته، وآخر يرتاب في كل ما قامت به الحريرية في مشروعها الاقتصادي، وجمهور يرتاب في الزعامات السياسية وما تقوم به للحفاظ على نفوذها داخل القبائل اللبنانية.
رغم ذلك، يبقى التوافق حيلة لتجاوز أزمات معينة. حتى عندما توقفت الحرب الأهلية وأُقرّ اتفاق الطائف، تمّت الاستعانة بالتوافق للخروج من الأزمة. وبمعزل عما إذا كان التوافق حقيقياً أو لا، إلا أنه يعبّر عن رغبة في تجاوز المشكلة. والتوافق، هنا، يعني أنه لا يمكن القيام بأمر دون أن يحظى بموافقة غالبية حقيقية في البلاد.
طوال السنوات الثلاثين الماضية، لم يكن من مجال ليكون لدى اللبنانيين سلطة قضائية متماسكة وعادلة وقادرة على القيام بمهامها. السبب لا يكمن فقط في طغيان السلطة السياسية القائمة، ولا حتى في عناصر التدخل الخارجي، بل أيضاً بسبب حالة الجبن والجهل والكسل والاحتيال لدى قسم غير قليل من قضاة لبنان، وقدرتهم على التعايش مع السلطات كافة، بما يحول دون قدرة القضاء على معالجة الأمور ذات البعد الوطني.
في حالة لبنان، الدولة غير المستقلة مهما قال السياديون وغيرهم، فإنّ دور الخارج أساسي في عمل جميع السلطات، لكن ما نشهده منذ عام 2005 هو أن هذا الدور تحوّل مركزياً، وجاء اللاعب الغربي ليثبت نفوذاً وتأثيراً بما يتجاوز اللاعب السوري عندما كان وحيداً في إدارة الملف اللبناني.
ومنذ قبول غالبية لبنانية معتبرة بأنّ لبنان غير مؤهّل لمتابعة التحقيقات في جريمة اغتيال رفيق الحريري وسياسيين آخرين، صار تدخّل الخارج أمراً عادياً، ليس عبر القناصل والسفراء فقط، بل أيضاً عبر الأدوات القضائية، بعدما زاد نفوذ أدواته الأمنية والسياسية، مروراً بجمعيّاته غير الحكومية.
لم يتعلّم القضاء اللبناني، ولا غيره، من درس المحكمة الدولية. وهم اليوم يكرّرون الأمر نفسه في ملف ملاحقة رياض سلامة وشركائه، بفتح الباب أمام قضاء دول لا نعرف عن تاريخها سوى الاستعمار والقتل ونهب الثروات، وها هو القضاء الأوروبي يدرس الطريقة الأفضل له لمعالجة ملف حاكم مصرف لبنان، علماً أنه – كما جرى في ملف اغتيال الحريري – لن يصل إلى غير ما وصل إليه التحقيق اللبناني. لكنه سيكرّر اللعبة نفسها التي أجادها في ملف الحريري، بإغفال كل عناصر الاشتباه بجهات أخرى صاحبة مصلحة في اغتيال الحريري،
وتغطية تعسف بحق لبنانيين، بينهم مسؤولون أمنيّون احتجزوا عنوة أربع سنوات، وبحق مئات اللبنانيين الذين أدرجت أسماؤهم على لوائح الشهود أو المشتبه فيهم قبل تبرئتهم عند الانتهاء من وظيفة الاتهام. وفوق ذلك كله، أُحبر اللبنانيون على دفع كلفة مالية كبيرة لعمل انتهى الى نتائج مطابقة لتقرير أمني أعدّه ضابط في قوى الأمن الداخلي.
واليوم، سيعمد القضاء الأوروبي، في ملف سلامة، الى إخفاء هويّة شركاء الحاكم من مصرفيين ورجال أعمال ومال أوروبيين ومصارف أجنبية كانت العمليات المالية تجري عبرها، وسيصدر القرار بأن لبنانياً فاسداً وحده ارتكب الجريمة واحتال على النظام الأوروبي.
وفوق ذلك، سيعمد القضاء الأوروبي الى تدفيع لبنان كلفة أعماله بعد أن تصادر الحكومات الأوروبية المعنية الأموال والعقارات التي يتّهم سلامة بأنه تملّكها في عمليات تبييض جرت في أوروبا.
لم يكن هذا كله ليحدث لولا موافقة جسم سياسي لبناني، يضمّ رسميين وحقوقيين وقضاة وعاملين في السلطة القضائية، يسهّلون عملية تدمير القضاء من بوابة التحقيق في جريمة تفجير المرفأ. ولا يمكن لأحد أن يفسّر صدفة أن يستعيد القاضي طارق البيطار عافيته بعد زيارة وفد فرنسي، كان يمكن للنيابة العامة المالية أن ترفض مجيئه الى لبنان، وأن تطلب منه إرسال طلبات بما يريده. مع قدوم هؤلاء، قرّر البيطار أنه قادر على استئناف عمله، واجتمع معهم بوصفه قاضي تحقيق يقوم بعمله بشكل طبيعي، علماً أنه متّهم بأنه سلّم الوفد الفرنسي وثائق ومعطيات من ملف التحقيقات اللبنانية. إذ إن الفرنسيين، كما تبيّن لاحقاً، أبلغوا من يهمّهم الأمر في بيروت، أنه في حال استمرار تعطيل التحقيق في ملف المرفأ، فإنّ فرنسا ستعمل على توسيع دائرة التحقيق كما هي الحال في ملف سلامة، وستتوسع في التحقيقات وتستخدم كل المعاهدات الدولية لإلزام لبنان بتزويدها ما تريده من معطيات.
عملياً، ليس طارق البيطار بطلاً وحيداً في معركة إعدام القضاء اللبناني. كل أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وكل القائمين على النيابة العامة التمييزية، إضافة الى وزارة العدل ومجلس الوزراء، يتحمّلون مسؤولية نوبة الجنون التي تعصف بالبيطار وتدفعه الى ارتكاب أفعال قد تفجّر البلاد، بحجة أنه يعرف طريقه الى العدالة.
بالعودة الى نظرية التوافق، كان يكفي أن يتذكّر البيطار، ومعه أعضاء مجلس القضاء الأعلى، أن نصف اللبنانيين على الأقل، إن لم يكن أكثر، يرتابون في ما يقوم به، ولا ثقة لهم في شخصه، ويرفضون التعاون معه. وهذا سبب كافٍ لأن يبادر البيطار من تلقاء نفسه الى المساعدة على إيجاد الحلول التي تمنح التحقيق الثقة المطلوبة، لا الشرعية القانونية والوظيفية فحسب… وهذا ما لم يحصل.
مع الأسف، مات القضاء اللبناني، وليس معروفاً متى يعلن موعد دفنه. لكن الخشية أن يدفع اللبنانيون الثمن غالياً نتيجة تهوّر وتعنّت وسلوك أرعن، لا يعتمدها البيطار وحده، بل أيضاً كثيرون من أهل الحلّ والربط في البلاد.
المصدر: إبراهيم الأمين – الأخبار