قراءة المُفكر الدكتور شوقي ابو لطيف للوحة الرسام شوقي دلال من مجموعة “ابجدية إنانا”
اذا حدث ان ادخل الفنان التشكيلي بعضا من سوانح المخيلة ، المتجاوزة للصورة ، الى لوحته ، او بعضا من انخطافة اللحظة ، الى ما بعد الرؤية الحسية ، اوبعض حشرجات الى بواطن الامكنة، من خوالج الذات ، إزاء الجوامد المنتصبة على قارعة السبيل ، فان ذلك يعد ارتقاء في سلم الابداع ، الذي تضفيه الموهبة المدهشة ، والثقافة المرهفة، واليد السيالة تخليقا، على حواف الاطار ، وهي متحيزة بين حدود المشهد ولاحدود الشهود .
اما اذا خلد الفنان الى ما وراء الاطار واستوى على المشارف الابهى للكون ، فانه لا يعود ليستعين بالسلالم المتدرجة الى القمم العليا ، كي يفوز بالبهاء المضنون به على غير اهل الريشة ، واقران الرياش المكنون في سريرة المبدع ، وهذا حال الفنان شوقي دلال ، في جداريته الهرمسية ، التي يقدر لها أن تكون سفر ترميز الى ذلك التوقد الازلي ، لديمومة الخلق والتكوين ، غير المتاح استشعار توهجهما ، لغير الناظرين بمرقاب مجهري يجول بين مجرة ومجرة ، وينقل ما ينبىء به جلال العقود السديمية من ابداع يد خفية في ما وراء الكون .
انها في الحقيقة جدارية المتحف الماورائي للإبداع، فتلك لم يسبق لفنان ان جاد بمثلها ، على امتداد المدارس الفنية ، التي ابتدات بالمحاكاة، لتنتهي بمعابث الشيزوفرينيا ، ومهاوي العدمية، وجائحات الوجودية .
لقد اشادت الشقدلالية ملامح ما وراء الكون ، بهذه اللونيات المتراكمة لطفولية كونية ، تقترن بظلال انسية ، في المغائر المفتوحة مما يتعدى المكان ، اذ تتبدى لنا في نقطة المحرق من الجدارية امومة غابرة للنور الادمي ، المتواشج بامومة محدثة للتركيبة التالية من سائل واثير وطين ولهب ، على ان المجرى الديمومي المنساب مما وراء التكوين يكتنز اللوح المعد لانبثاق التحضر على مرامي الأزل . وإذ يتعالى في أبراج الحضارة وجه الانسان المتسامي ، الذي استنفده الزمان فردا تلو فرد ، وجماعة تلو جماعة ، لتبقى علائم الدلالة الى عابر او مسافر او مغامر ، فان انصبابا اخر يعلو من أعماق الهياكل المزدانة بتقاليد أرضية، وكأنه بخور السحاب ، التي يؤمل ان تمطر العقل بهدي الركون الى ما يكتنف اللون من نسغ اليقين ، ويضيء البديهة ويرسي جملة المقولات ، على شرفات المدرك ، الى المطلق .
الألوان في هذه الجدارية تتوازى وظلال الانس المنبثقة من عالم اعلى . انها تحوي مكامن التوق الى مشهد فوق ارضي ، تتخلله اهرام للنفس ، ومنافذ عليا الى النور الابهى، وبِناءات مخروطية وحدائق ذوقية، الى حيث يتجلى الانسان على مباسم ما بعد الكون . انه الانسان الأسمى الثاني الكانطي، وليس الانسان الأعلى النيتشوي . ويعود هذا التسامي الى روح شرقية ، من حيث الامومة التي تنتعش بها الاديان ، فترتسم ازاءها تلك الزركشات الصاخبة بالفوسفوري . والنيلي المضمخ بطين ولازورد ، والفيروزجي المطعم بسندس وضوء ، والترابي المُندغم بالبنفسجي، وبِسَمَاوي من أفق وغيم ، وتبرز في اللوحة عناصر بناء حضارية خمسة تلخص ما يكتنف الوجود من اقانيم النور ، التي تولدت من امومة الكون للانسان ، ذاك الكائن المُتَبدّي في اللوحة على تشكل هرمسي من ضوء وطين ، منسابا في مهاتف النور الى الما بعد، لعله يحظى بسفر فُلكي الى وحدة شهود ، لطالما ترتجيه الجدارية الشقدلالية ، وتندفع اليه مواكب الدرر التواقة الى الصائغ الفرد الازلي ، في حنايا ميزان عتيق .
لقد افلح الفنان شوقي دلال في ما يتعدى التشكيل الى التكوين ، لتضحي جداريته هذه الهاما يجاور أسفار اللألىء الكونية ، التي تبثها السماء على مسامع اهل الأرض. منذ البدء والى ما لا نهاية .
*الدكتور شوقي ابو لطيف مُفكر واديب واستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية