غرفة 410 – قصة قصيرة

غرفة 410

وداد طه

قصة قصيرة

تَعمل آمال في تلك المدرسَة منذ عشرين سنة. تؤدّي عملها في سخطٍ يتبدّى في مسحة التعب اللانهائيّ والقهر المزمن، التي تَرسمها على وَجهها الطوليّ المغبرّ، ذي الشفتين المزرقّتين، وهي تطلب إليكَ أن تضعَ ما تحمله لكي تغسله، مع الأواني التي تتركها المعلّماتُ بعد كلّ فرصة.
تردّ السلامَ مطرقة الرّأس إنْ حيّيتَها. وقد تتحاشاك إن استطاعت، فتدّعي الانشغالَ بأيّ شيء، أو تَقصد طابقًا آخر لتعمل فيه. تُعَجل إليك إنْ طلبتَها، لكنها لا تبادر إلى تأدية عملها؛ فعليكَ دومًا تذكيرُها بضرورة تنظيف الحمام أو وضع إبريق الماء على النار لتسخينه. وكانت في إحدى المرات قد نسيت الغازَ مفتوحًا وغادرت المبنى، لتصل المدام عناية، معلِّمة اللغة الفرنسيّة، فتطفئه فورًا، وتفتح الشبابيك، وتتعوّذ بالله من غفلتها.
تنفض يديها بسرعةٍ من غسل الصحون والأكواب. تهرول إلى مبنًى آخر، وتخبرك وهي تمشي بخطًى متلعثمة نحو الدرَج أنّها تعمل في كلّ المباني. تضرب يدَها على فخذها أنْ لا حول لها ولا قوة. وإنْ رأتك في وقتٍ لاحقٍ من النّهار أكملتْ حديثها الصباحيّ:

“بدّي أترك الشغل. لا بيسمعوني ولا يرحموني. وحدي بهل البناية، ولازم أساعد غيري بالبنايات التانية. وعلى شو؟ بيتي أوْلى. أنا مش بحاجة هذا العمل. أولادي كبروا، وزوّجت البنات.عقبالك! بعدك عزبا، مدام، صح؟ أبوهم عنده دكّان، والي بطلعه منعيش فيه. شو بدنا بعد من هالحياة؟ صرت جلدة على عظمة. كانت صحتي زيّ الخاروف. إنت هلأ شايفتيني هيك. بس بتعرفي؟ بتذكريني بحالي وأنا بعمرك. هيك كنت طويلة زيّك. بس الشّغل هدّني. أنا تعلّمت، خلّصت البكالوريا، وفتتْ معهد، بس ما حدا بيعرف شو مخبيلو العمر. الله يسامحه بيي ترّكني المدرسة. تزوجت إبن عمي. كان منيح وما أحلاه يهدّ جبال. بس ولاد الحرام، الكتائب، آخ يا مِسْ. أخدوه، رجع لا من كوعه ولا من بوعه. نسي أسامي الولاد، منيح اللي الله سمحلنا فيهن قبل هالمصيبة. آخ يا مس، هالحياة شو صعبة، وإلّا أنا شو كان رماني على هالمرّ إلا الي أمرّ منه؟ يلا يعطيكي العافية.”

تسرع إلى صوت الناظر يدعو عليها: “آمال، ولك الله ياخدك. كم مرّة لازم أناديكِ؟”

ماسحةً يديها بمريولها المتّسخ، تتركك مربكًا أمام قهرها، الممزوجِ بعنفوانٍ كاذب. تهرول مبتعدةً، تاركة وراءها رائحةَ عرقها المعتّق.

***

قبل انتهاء الدوام، طلبتْ منها مديرةُ القسم أن تنظّف المكانَ جيّدًا؛ فاجتماع الأهالي يوم الاثنين، واليوم هو الجمعة، وهناك الكثير لتنجزه قبل أن تعود إلى البيت لتستقبل بناتها اللواتي يأتين لزيارتها مع أولادهنّ.

“كله هالنهار وبيمرق يا آمال،” شجّعتْ نفسها وهي تنظر إلى الماء يندلق من الخرطوم وينداح على الأرضيّة الملساء. قلبت الكراسي فوق الطاولة الكبيرة التي تتوسّط الغرفة، وصفّتها بعضها قرب بعض كي يَسعها سطحُ الطاولة الأبيض، حيث تتزاحم أكياسُ المقرمشات والكبّايات وأنصاف قطع الجاتو في صحون بلاستيكيّة، كانت زميلات المعلمة قد تركنها بعد الحفل الذي أقمنه لبسمة بمناسبة تقاعدها.

راحَت تُلملم الموجود بيد، وتمسح الطاولة بيد ثانية، وسيجارتُها لا تفارق شفتيها لأنها وحدها تمامًا ولا أعين تتلصّص على عملها. وفيما هي مُنهمكة في شتم الجميع، سقط رمادُ سيجارتها فوق سطح مربّعٍ لامع، فأسرعتْ تزيله. وما كادت يدها تلامسه حتّى جمدتْ في مكانها؛ فقد وقعتْ عيناها على صورةٍ للسيّدة بسمة وهي في أحضان شخصٍ ما.

دقّقتْ في الصورة، فلاحظتْ كم تبدو المرأةُ مختلفةً وهي تبتسم، وترتدي الأحمر، فيما شعرُها منسدل وهي تحضن وجهَ الشابّ بيديها. قلّبت الصورةَ بتوتّر: كانت هناك كلمة مطبوعة فوقها بأحمر الشفاه، “أحبّك.”

تعْلم آمال أنّ السيّدة بسمة مطلّقة منذ سنوات طوال، وأنّ زوجها سفّر أولادَها، وأنّها لم تر أيًّا منهم منذ ذلك الحين.
خرجتْ من الغرفة، تاركةً بعض بقع الماء غيرَ ممسوحة. أنهت عملها في المبنى، وهرولتْ نحو الباص الذي يقلّ العاملين إلى بيوتهم. رمت بنفسها في المقعد البنفسجيّ، وأغمضتْ عينيها وفي قلبها أسئلة تُحرقها. نزلت ومشت إلى السوبرماركت وعقلها يمشي في كلّ اتّجاه: “أيعقل أن تكون السيّدة بسمة على علاقة عاطفيّة؟ هل جُنّت المخلوقة وهي على مشارف الستّين؟ كيف يمكنها أن تحبّ من يصغرها بسنوات؟ هل بينهما علاقة جسديّة؟”

لم  تستسغ أيّ طعم. بعد الانتهاء من الطعام، توجّهت لجلي الأطباق كي تبتعد عن ضجيج الحكايات التي تحكيها بناتها. دخّنت علبتيْ دخان، ولم ترتشف من فنجان قهوتها إلّا شفّة واحدة. انهمكتْ تحيك القصَص في خيالها عن ليالي السيّدة بسمة مع ذلك الشابّ الوسيم.

حين غادر الجميع، دخلتْ غرفتها. لمحتْ مرآتها المكسورة من طرفها الأيمن، فقامت نحوها ببطء وكأنّها ترى نفسها لأوّل مرّة. راحت تَخلع ثيابها كأنّها وردة تخشى أن تفرفط أوراقها. ولأوّل مرّة منذ سنوات وقفت عارية أمام مرآتها. تسمّرتْ عيناها على وجهها. تلمّسته بحذر. تحسّستْ عينيها بتردّد وكأنّهما ليستا عينيها؛ تلك التجاعيد صارت طُرقًا لدموعها كلّ ليلة، نحو صدرها الذابل كورقة خريف.لاحظتْ أنّ بشرتها جافّة، ويديها مجعّدتان وقاسيتان كحجريْ صوّان. لم يَبِنْ بطنُها من طبقات الجلد المتكدّس جرّاء الولادات الستّ. لم تكسب وزنًا زائدًا لكنّ جلدها متهدّل وناشف كليفة.
نزلتْ تحت الماء الدافئ. أغمضتْ عينيها.هي أيضًا مات زوجُها منذ سنوات كثيرة خلت؛ تركها مع ستّة أولاد قصموا ظهرَها بطلباتهم. ربّتهم وحدها بعد أن حرمها حموها من ميراث زوجها. كانت صغيرةً حين تزوّجتْ، وصغيرةً حين ترمّلتْ. حينها، تقدّمتْ نحو المديرة وقالت لها: “أعملُ أينما شئتِ وكلَّ ما شئتِ.” استلمتْ وظيفتها عاملةً في المدرسة. ومنذ ذلك اليوم لم ترتح دقيقة واحدة. غرِقتْ في الطّلبات والأوامر، وحمل الكتب، ونقل الطاولات، وإزالة الغبار، والكنس، ومسح الأدراج، وتنظيف ما يكتبه التلاميذ على جدران الصّفوف في المبنى.غرِقتْ حتّى نسيتْ متى شعرتْ آخرَ مرةٍ أنّها تحيا. استعادت شكل السيّدة بسمة، ولاح وجه الشابّ الوسيم. نامت وهي تَشعر بشيءٍ ما داخلها.

في صباح اليوم التالي خرجتْ إلى السوق. قصدتْ متجرًا أسعارُه معقولة. اشترت قميصًا جديدًا أبيض، وسروالًا أسود. لم تتمكّن من تغيير لون حدادها الأزليّ مرّةً واحدة. اتّصلت بزهير، سائقِ الباص الذي يغازلها ويُحاول إقناعَها بالخروج معه منذ سنتين.

“ألو إيه، لاقيني هناك.”

جلستْ زائغةَ العينين، وزهير يتفرّس في صدرها الذي برز شقُّه من القميص. تركتْ كأس العصير من يدها. وقفتْ نصف وقفة، وقالت وهي تحاول أن تُخمد صوت الكيس الأسود في يدها :” نتّفق على التّفاصيل هناك.” مشت أمامه، فسارع إلى اللحاق بها.

دخلتْ آمال الغرفة الزهريّة الحيطان. رمت كيسَها على السرير. طوّقتْ يد زهير، فسرى خدرٌ في دمها.

لم تنتبه إلّا وهي تراه يزرِّر قميصَه فيما نصفُه الأسفل عارٍ.

***

كان صباح الاثنين خفيفًا. قصدت المدرسة مشيًا، كي لا تلتقي زهيرًا الذي حظرتْه عن جوّالها لحظةَ خرجت من الأوتيل. جلستْ في الغرفة المخصّصة للقرطاسيّة، هادئةً. مرّت الوجوهُ واحدًا واحدًا. وحده وجه السيّدة بسمة غاب. لم تسأل عنها، لكنّها تفقّدتها طوال النهار من دون جدوى.

كانت تغيّر مريولها حين تناهى إلى سمعها صوتُ هند وهي تسأل ابتسام: “عرفتِ؟”

ــــ أجل… الله يلطف فينا.

ــــ حرام، لولاه ما اكتشفت.

ــــ إيه، الله بيستر، كاتبلها عُمر.

ــــ الصدفة مرّات بتغيّر مسار الحياة. بس أنا صرت على يقين ما في صدفة. هي عانت وانحرمتْ منهم. الأيّام بتدور، وبيرجع كلّ شيء إلى قاعدته.

ــــ هي ما تركتن. والدهم هو اللي حرمها منهم. وهي بقيتْ تراسله. ووقت زار لبنان، التقوا.

ــــ إيه، يمكن كان خيفان عا صحّتها، فطلب منها الفحوصات، وبالصدفة ظهر المرض. الله ينجّينا.

ــــ مكتبلها عُمر. تلفنتلها مبارح. قالت عمليّتها بعد بكرة. لازم نزورها. بكرة منرتّب زيارة مع المعلّمات. شفتي صورتها مع ابنها الطبيب اللي اكتشف المرض؟

ــــ ايه، كانت على طاولتها يوم الجمعة.

صيدا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!