لا تذهبوا إلى الدوائر الرسمية جيش من النصابين والفاسدين والسماسرة

صدى وادي التيم-لبنانيات/

الجحيم هو “الإدارات الرسمية”. كان ذلك قبل أن تتحول الدولة إلى حطام ومؤسساتها إلى أطلال. أما الآن فهو جحيم تسيطر عليه شياطين أسوأ بكثير، أشد فساداً وفجوراً مما كانوا عليه قبل سنوات قليلة.
كان علي أن أنجز معاملة سهلة كشربة ماء: تذهب إلى الإدارة المالية، تدفع رسماً بسيطاً، ثم تذهب إلى الإدارة العقارية لتسلّم الملف. بعدها بيوم، تأتي لتدفع أيضاً ثمن الطوابع والرسوم الإضافية، لتأخذ المعاملة المنجزة. هكذا قيل لي.

أصل إلى الشارع حيث مقر الإدارتين المالية والعقارية: مكاتب تخليص معاملات. مكاتب تصوير مستندات وبيع طوابع. مكاتب خبراء محلفين وكتّاب العدل. دكاكين قهوة ومرطبات ومناقيش… وجيوش من رجال وشبان كيفما نظرت وأينما دخلت. معظمهم يشبهون الصيادين الذين يبحثون عن فريسة لالتهامها. أي مواطن يحمل مغلفاً أو أوراقاً وعلى وجهه ملامح الحيرة هو مشروع فريسة. إنهم الوسطاء والسماسرة ومتعقبو ومخلصو المعاملات، الذين يعرفون كل المسارات والأبواب الخلفية والموظفين والمدراء ورؤساء الدوائر.

الإدارات لا تفتح سوى ثلاثة أيام فقط. هذا يؤدي إلى ازدحام خانق عند البوابة، ثم داخل القاعات والمكاتب. ضجيج وتدافع وأوراق وهواتف وقنوط وأكداس من الملفات وبشر يتحركون في كل الاتجاهات لاهثين متوترين، وصفوف عشوائية وراء كل شباك موظف، وأجساد تتعرق منهكة نافدة الصبر متأففة. لا أدري كيف اخترقت ودخلت المبنى المخصص لمعاملات “المالية”: من أين أبدأ بتسيير معاملتي؟ لغز يجب حلّه بسرعة. أقرأ أوراقاً معلقة فوق شبابيك الموظفين الزجاجية. ليس في هذا الطابق الدائرة المختصة. تبدأ رحلة استكشاف الطوابق. كل من أسأله لديه جوابه المختلف. تنتهي المتاهة التي تستنفد جهازي العصبي بالعودة إلى القاعة الأولى التي دخلتها. في نهايتها موظفتان. أنتظر دوري بالطابور نحو نصف ساعة: صباح الخير، أقولها للأولى. لا ترد ولا ترفع رأسها وتشير إليّ بأصبعها نحو زميلتها. وهذه الأخيرة تتحدث عبر الهاتف. دقيقة، دقيقتان، خمس، سبع دقائق أقف وأنتظر. تغلق الهاتف، وتنشغل بالكمبيوتر: “نعم؟”، فأشرح لها: لدي هذه المعاملة. تأخذ الملف وتقلّبه، وتتصفح أوراقه، وتنظر إلي فاحصة متمهلة، كأنها تريد تكوين فكرة ما عني: مهنتك؟ مهنة زوجتك؟ سؤالان لا علاقة لهما –ظاهرياً- بالمعاملة. أدركت على الفور أنها تريد تقييمي مالياً. كمية “الدهن” الدولاري المحتمل لهذه الفريسة التي تراها أمامها. تأخذ آلة حاسبة وتبدأ بالجمع والضرب والقسمة. ثم تقول: “سأرى إن كان يمكن تمريرها اليوم، رغم أنها تحتاج لتصديق من الكاتب العدل”. لم يقل لي أحد أنها بحاجة لهكذا تصديق. فجأة غيّرت الموظفة رأيها: “عليك دفع مليوني ليرة لإنجازها.. اترك الملف وعد غداً”.

قررت أن لا أطيعها، لأني لا أحمل المبلغ.

أخرج إلى أقرب مكتب الكاتب العدل: تصديق الورقة المطلوبة يكلّف ثلاثة ملايين ليرة. فاعتذرت وخرجت نحو زحمة سير خانقة متجهاً إلى عملي. هناك في المبنى ذاته لمقر عملي يوجد أيضاً الكاتب العدل. أمر به مستفسراً عن كلفة تصديق تلك الورقة اللعينة: ثلاثة ملايين ونصف المليون.

بعد الظهر، أقرر الخروج من منزلي نحو الكاتب العدل الكائن في أول الشارع. يطلب أربعة ملايين وثلاثمئة ألف ليرة. أنتقل إلى آخر على مبعدة شارعين: خمسة ملايين وثمانمئة ألف ليرة. هؤلاء الكتّاب العدل لصوص؟ لا، إنهم كسائر اللبنانيين الذين يخرجون يومياً نحو حرب تحصيل المال بكل الوسائل بلا أي رادع. إنه ذاك “الفساد” العظيم الذي نخطئ بحصره في حفنة سياسيين دهاقنة “ربّوا” شعباً وفق أخلاقهم الرفيعة سياسة واقتصاداً.

في اليوم التالي، عدت إلى الكاتب العدل الأول ودفعت الملايين الثلاثة. أما المفاجأة الكبرى التي قالها لي: “معاملتك لا تحتاج أصلاً لـ”المالية”، فقط عليك بالدائرة العقارية”. إذاً، لقد نجوت بأعجوبة من فخ موظفة الأمس. وبهذا الانتصار الصغير، توجهت فرحاً نحو مبنى العقارية، مستغرباً غياب الزحام المرعب. الباب مقفل وورقة تعلوه: شكراً لتفهمكم. اليوم مخصص للعمل الإداري ولا نستقبل المواطنين. نسيت ذاك الانتصار بهذه الخيبة. يومان فقط للمواطنين في الأسبوع لا ثلاثة!

حتى الآن كنت أتحاشى جيش السماسرة، لكن كان عليّ ترتيب فكرة واضحة، كيف سأنجز معاملتي. أدخل مكتب تخليص معاملات، وأسأل. بمنتهى الشفافية تجيب الموظفة: أوراقك سليمة، تحتاج لمدة شهر تقريباً لتنتهي. كلفتها الرسمية مئتا ألف ليرة، لكن لتنجزها عليك دفع نحو أربعة ملايين ليرة.

ما ظننته سهلاً كشربة ماء، كان وهماً لا يصيب إلا المغفلين. لا مفر من الجحيم.. لا مفر.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!