السراي الشهابية في حاصبيا: التاريخ من أعلى قنطرة عالمية
عند زيارة “وادي التيم” وبلدة حاصبيا العريقة في الجنوب اللبناني، لا بد للزائر أن ييمّم شطر سراياها الشهابية الضاربة في القدم.
هنا، ترتسم الدهشة منذ الوهلة الأولى لولوجك مدخل البناء المقوّس المرتفع المهيب الذي يفضي إلى ساحٍ كبيرة، الدهشة المرتسمة في هذه الهنيهات ليست بسبب ضخامة الصرح وعراقته الضاربة في غور التاريخ فقط، بل أيضاً من جرّاء الإهمال الرسمي لها على مدى السنين.
ساحات سفلية وعلوية تصل مباني السراي الضخمة التي تتوسطها دار الأمير الراحل مفيد شهاب، أحد أبرز وجوه منطقة حاصبيا لعقود، وقد وافته المنية قبل حوالى الشهر، حيث تمكّن فريق “الميادين نت“، من دخول غرف الدار التي تقطنها عائلته.
في الداخل، توثيق مصوّر لتاريخ الإمارة الشهابية في لبنان ورجالاتها، ولعلّ شجرة العائلة المرسومة تعبّر باختصار عن هذا الزمان الغابر العتيد.
ابن المنطقة الزميل والناشط طارق حديفة رافقنا في جولته على مدى يومٍ كامل، فأحاطنا علماً بأن “القنطرة” المعقودة والمزخرفة هي الأعلى في الشرق الأوسط.
تستقبلنا سيدات المنزل الطيّبات بترحابٍ ودماثة، فيجزلن الشرح وجلب الصور والوثائق التاريخية، والتعريف بأقسام السراي الكبيرة.
صور وزير الدفاع الأسبق الأمير مجيد أرسلان تغطي جدران المنزل المعقودة حجارته، لما لأحد أهم رجالات الاستقلال من أثرٍ في تاريخ لبنان الحديث والجنوب ومنطقة وادي التيم بالتحديد.
المجيدية “قبلة المقاومين”
بموازاة ذلك، لا بد لنا عند الحديث عن إرسلان من ذكر بلدة المجيدية القريبة والقصر الأرسلاني فيها، والتي عاشت عصرها الذهبي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وظلت على مدى عقدين ونيّف، صاحبة القرارات السياسية المهمة في لبنان، بحسب أبناء المنطقة.
في أواخر الستينات، استهدف الطيران الإسرائيلي القصر بأكثر من 37 قذيفة وكان أرسلان متوجداً فيه، ثم في تشرين الأول| أكتوبر 1970 دخلت قوة كوماندوس إسرائيلية فدمرته بشكل كامل بسبب مناصرته للقضية الفلسطينية، فتحول من منتجع إلى مهجع، ومن مزرعة إلى دسكرة تنطلق منه الدوريات والطوابير المدرّعة لتنفيذ العمليات العسكرية المنوّعة ضد العدو.
استرجاع للتاريخ
صعدنا درجات قليلة لنقف أمام بوابة السرايا نسترجع تاريخاً تقصّه علينا عتبات وقناطر وساحات وحجارة وأعشاب…
نحت القنطرة الكبيرة يبرز أسداً كبيراً مقيّداً بالسلاسل وآخر صغيراً، ضعيفاً حراً، وأمامهما أرنبان طليقان. ويرمز هذا المشهد الى أن القوي مقيّد والضعيف غير مقيّد في إبان الحكم الشهابي.
نلج السرايا من باب صغير ضمن باب كبير تعلوه عبارة نقشها الشهابيون وفيها: “مما عمل برسم الجناب الكبير الغالي الأمير علي ابن المرحوم الأمير قاسم بن شهاب وذلك في سنة 1009 هـ”.
من أهم المراكز الأثرية
تشكّل السرايا الجزء الرئيس من المجمّع الشهابي الذي يضم مجموعة من المباني المحيطة بساحة مركزية طولها 150 متراً وعرضها 100 متر: بيوت من القرون الوسطى، مسجد يعود تاريخ مئذنته المسدّسة الشكل والمزيّنة بحجارة ملوّنة إلى القرن الثاني عشر، وقسم أخير، ما يجعل مساحة المجمّع 20 ألف متر مربع.
وكما ترون، تقع هذه السرايا على هضبة تطل على نهر يحيط بها شمالاً. وتعدّ من المراكز الأثرية الهامة، وهي مدرجة ضمن المواقع الأثرية في لبنان. وعلى الرغم من ذلك، لم تحظَ يوماً بالاهتمام الذي تستحقه سوى بين العامين 1965 و1975 حين قامت مديرية الآثار ببعض الترميمات البسيطة، ومذ ذاك غابت المديرية بشكل تام عن السرايا التي تأكلها الطحالب والأعشاب البرية.
لقطة عامة للسراي الشهابية اللبنانية
على الجدران الخارجية، ظهرت التصدّعات جليّاً للعيان، وخصوصاً في الفترة الأخيرة من جرّاء الهزّات الارتدادية التي ضربت المنطقة، وباتت تشكّل خطراً على السرايا في غياب العناية الكافية، ناهيك بفترة الاحتلال الإسرائيلي، والتي أثّرت تأثيراً سلبياً في السرايّ.
طالعتنا بعد المدخل باحة عامة، طولها 60 متراً وعرضها 40 متراً، يحتضنها بناء أثري. والمدخل عبارة عن عقد صليبي يبلغ ارتفاعه 32 متراً، وهو يُعدُّ أعلى عقد في شرق البحر المتوسط.
وتتميـّز هذه الباحة التي كانت مسرحاً للأفراح والاحتفالات والمبارزة، بالإضافة إلى الجدران المحيطة بها والبالغـة سماكتها 1.5 متراً والشرفات القديمـة والسلالم، بالمنظـر المحدود للأبراج، والمدخلين تعلو كلاً منهما قنطرة، والجنـاح الذي شغـله ذات يوم والي مصر إبراهيم باشا.
“صالون الست”
وسرعان ما استرعى انتباهنا واقع غريب: أرض جرداء تطارد بقعة خضراء فتحصرها في زاوية. وتبيّنا الحقيقة: إنهم بعض الأمراء الشهابيين ما يزالون يعيشون في السرايا نافخين الحياة في الفناء المهجور حتى يخال للناظر إلى تلك الزاوية وكأنهم يقيمون في حيّ هجره سكانه، أو في مبنى لا يسكنه غيرهم.
إلى يمين الباحة قنطرة شاهقة يبلغ ارتفاعها تسعة أمتار تؤدي إلى كنيسة الكونت أورا، ما زالت النقوش الرخامية تزيّن حائطها الأمامي وفي وسطها بئر عميقة.
وفي الطرف البعيد فتحة مقوّمة عريضة داخل جدار من الحجر الأسود والأبيض كانت المدخل للديوان أو صالون الست شمس، زوجة الأمير بشير الشهابي الثاني، وإلى يسار الديوان بُني الجناح الذي شغله إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، والي مصر، خلال الحملة التي شنّها ضد العثمانيين العام 1838.
أقسام القلعة
-قاعة الاستقبال الكبرى: وتعرف بالفستقية، وهي عبارة عن ديوان رُصفَت أرضه بالفسيفساء وتوسطه حوض رخامي مطعّم ضمّ نافورة ماء. مقاعده من الحجر المنحوت. يزيّن جدرانه بعض النقوش ومنها عبارة للأمير منصور الشهابي “حسبي الله الغفور وكفى عبده منصور”.
– إيوان الأمير سعد الدين شهاب: يقع في الطبقة الثالثة، وهو ديوان بديع تتوسطه بركة ماء ونافورة رخامية، وتحيط به قناطر مزخرفة بالنقوش العربية. أما أرضه فمرصّعة ببلاط من الرخام منقول إليها وعليها صليب معقوف كان شعاراً لأحد أباطرة الرومان، ولوحة فسيفساء مزركشة ما يدل أن جذور هذا القصر رومانية قبل أن يكون صليبياً ثم شهابياً. وأمام الديوان ثمة زخارف صليبية تمثّل أزهاراً كانت شعار آل “بوربون” وهي عائلة ملكية أوروبية مهمة.
جناح الأمير إرسلان
– جناح الأمير مجيد أرسلان: يعود إلى الأمير مجيد بصلة النسب التي تربطه بالأمراء الشهابيين، ويعد من أكبر الأجنحة في السراي، تزيّن مدخله الرئيس قنطرة عالية جداً من الرخام الملوّن، وقد ورث الأمير طلال أرسلان هذا الجناح عن والده.
-أما البرج الوحيد القائم فهو من أصل أربعة أبراج كانت تُستعمل للدفاع عن القصر الصليبي، ومنه تظهر مدينة حاصبيا، ومن الجهة الشرقية تظهر بلدات عين قنيا وشويا وزغلة، ومن الغرب بلدة كوكبا ومجرى نهر الحاصباني.مّيت باسمه لأنه سكنها عندما أتى إلى حاصبيا.
– قاعة الأمير مفيد شهاب: رُمّمت حديثاً، وتتوسط جدارها الأمامي صورة للأمير بشير الشهابي.
– ميدان الخيل: يقع أمام القصر الشهابي لجهتي الغرب والشمال، اقتطعت منه أقسام متعددة حيث بُني موقف للوقف السني وبيوت لبعض الأمراء وسواهم.
– الحمّامات: تقع خارج السرايا الشهابية إلى الشرق ولم يبقَ منها سوى الأطلال. بُنيت على الطراز الشامي بشكل قناطر وأقبية، وسقفها على طريقة العقود القديمة. يتوسط كل قاعة جرن رخامي، وقد جُلبت إليها الماء من خارج حاصبيا بأقنية حجرية.
– (تصوير غسان الحاج)