يد فراس حمدان على عينه… صورته الحقيقية

صدى وادي التيم – لبنانيات :

حرس المجلس على حاله. ونبيه بري على حاله. والأحزاب على حالها. لا شيء جديداً في حفل إعادة الانتخاب، إلا سعر صرف الليرة الذي اختلف عن آخر مرة أقيم فيها هذا النشاط. إلا الانهيار العام الذي بات اللبنانيون يبحثون في القاموس عن مفردات جديدة أصدق تعبيراً عنه. إلا انفجار 4 آب. جددت الطوائف دمها وعادت أقوى، لأن المؤامرات التي حاكتها 17 تشرين ضدها سقطت. حتى الأسماء الغابرة تجددت هي نفسها. منها، مثلاً، ستيني اسمه كميل شمعون. ولم تستطع إلا بضعة وجوه اختراق الدرع الفولاذي للطوائف، منها، مثلاً، ثلاثيني اسمه فراس حمدان.

بين هذين النائبين بالتحديد كميل شمعون وفراس حمدان، كانت المفارقة الوحيدة، والمذهلة بشدة نفورها، بين لبنانيين تواجها في جلسة إعادة انتخاب بري. الأول، حفيد الرئيس الراحل كميل شمعون، سليل الأسرة العتيقة في السياسة، الوريث الشرعي لـ”حزب الوطنيين الأحرار”، وقد ورث من جده، إضافة إلى الحزب، سيارة “بنتلي” خلّابة جاء فيها إلى المجلس النيابي جالساً على المقعد الخلفي، لا ينقصه إلا التلويح بقفا كفه لمواطني الملكة إليزابيث الثانية وهم يهللون لدوق ويلز.

ربما هي سذاجة هذا العنصري المتطرف ورطته في إطلالة أولى إلى هذه الدرجة تدعو إلى الشفقة، إذ كشفت أنه مجرد اسم وسيارة مستعارين، إذا سحبا منه، اختفى. وحين قرر أن يشرح لماذا اختار الوصول على صهوة “بنتلي”، قال إنها تعرف الطريق إلى المجلس وحدها. سيّان عند السيارة إذاً. كانت ستصل به ومن دونه.

كميل شمعون، وإن كان يبدو كالواصل لتوه من بدايات القرن السابق، إلا أنه نموذج، ومثال أعلى لكل ورثة آبائهم وأجدادهم في المجلس. حملوا على الأكتاف والرؤوس من بيت الزعيم العريق مباشرة إلى ساحة النجمة. لم يمروا بالشارع. يتقززون من الاحتكاك بالناس، وإن اضطروا يكتفون بدوائر جمهورهم الصغير، والأفضل في ديوان العائلة، حيث يمكن إبهار المحبين الطيبين بالفخامة والعراقة، وتوضيب تصرفاتهم وتعليبها لتتلاءم مع الأرستقراطية وهيبة الزعامة، فيصير اللقاء بواحد منهم، ومصافحته، منّة لا تنسى.

معضلة كميل شمعون وزملائه الأصلية هي عجزهم الفطري عن الإحساس بأي شكل من أشكال الهم العام. ليس في جيناتهم ما يجعل بالهم ينشغل على سعر ربطة الخبز، على فاتورة المولد الكهربائي، على كوابيس أستاذة في التعليم الرسمي وهي تدور بأفكارها عن سبب يجعل راتبها الشهري بهذه القيمة، وعن كيف ستصمد ثلاثين يوماً أخرى. هذه الهموم ليست شأنهم. المهم أن “البنتلي” عادت أخيراً إلى المجلس النيابي، بعد طول فراق.

هناك، في مقابل كميل شمعون، فراس حمدان.

لفراس صور كثيرة سابقة. منها تلك التي بدا فيها مصاباً أيام 17 تشرين التي قتلت فيها السلطة لبنانيين ولبنانيات وفقأت عيونهم. ولفراس صورة ظهر فيها بصفته ضابطاً إسرائيلياً يجلس إلى جانب العلم ويحدق بالكاميرا، من دون أي خجل. الصورة مزيفة وليست حقيقية.

صورة فراس حمدان الحقيقية كانت وهو يغطي عينه بيده، على آخر “دَرْجة” قبل دخوله إلى المجلس. صورته هذه كانت أشبه بالتذكير بأنه لم ينس. كانت وعداً.

لم يأت فراس بسيارة جده “البنتلي” من الجنوب. (لمن قد يستفسر، جده لا يملك بنتلي). مشى ورفيقاته ورفاقه من المرفأ إلى المجلس. بدأ عمله من علامة سؤال عملاقة ما زالت عالقة في سماء المرفأ عن مسبب هذه الجريمة التي يجب ألا تُغتفر. هذا الشاب ليس بطلاً. ليس تشي غيفارا النازل لتوه على شواطئ كوبا. أتى باسمه الأول والأخير فقط. من دون أن يكون قد ورث عن والده وجده رعية وقصراً عاجياً. أتى من الشارع، حرفياً. أتى استمراراً لصراخ من هتفوا في 17 تشرين، وعلى الدرج وعدهم بأنه سيبقى صوتهم. إنها مسألة جينات أيضاً. هذا المواطن العادي لا يملك ترف العجز عن الشعور بالهم العام والتفاعل معه. مقعده النيابي لم يكن ينتظره حتى يبلغ الواحدة والعشرين كي يأتي ليشغله. ليس وراءه حزبا ولا أبا وجد. إنجازه، وأن كان أقرب إلى معجزة مستحيلة، ليس شخصياً. هو إنجاز مواطنين من لبنان كله، لديهم خطابهم المختلف عن خطاب الطوائف وأحزابهم الحاكمة. هو إنجاز لجيل يحلم بلبنان مختلف، دفع عيوناً وأرواحاً في سبيل أن يحلم على الأقل. إنجاز فراس عام وليس شخصياً. وهمه عام، وليس شخصياً.

ينتمي فراس حمدان إلى أصغر أقلية في مجلس النواب، وأكثرها عداء من الجميع. سيبذلون كل جهد ممكن لترويض هؤلاء وتدجينهم وضمهم تحت الأجنحة المتفرقة. في حساباتهم، هذا خرق ينبغي ألا يتكرر. هناك آلة واحدة يُدخل من إحدى جهتيها الحزبيون والوارثون، لا فرق، فيخرجون من الجهة الثانية دمى متشابهة تحكي المسجل في ذاكرتها حين يتم الضغط على أزرارها. مجلس النواب منطقة أمان هؤلاء، تحرسها فرقة من الهتافين قارعي الطبول الذين يتحولون إلى قتلة حين يؤمرون. سيارة “البنتلي” إضافة مسلية خاصة حين يحكي الدوق. لكن يداً تغطي العين، هي يد مزعجة، إذ بخلاف أيدي الدمى المعدة للرفع فقط للتصويت بنعم، هذه يد تتمرد من اللحظة الأولى إذ تذكر بالعيون. وليس فراس سوى “أزعر” آت من شارع 17 تشرين البذيء، واليد المزعجة نفسها يمكنها أن ترفع الوسطى لهؤلاء من داخل البرلمان، كما رُفعت لهم بالآلاف خارجه. لا شك أنها ستكون مبادرة بذيئة لطيفة.

المصدر : درج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!