شوقي دلال رسام الذكريات بقلم الدكتور مروان أبو لطيف

صدى وادي التيم – ثقافة /

يوماً بعد يوم ولوحةً بعد لوحة، يتكرّس الفنّان التشكيليّ المميّز شوقي دلال فناناً مبدعاً ورساماً متمكناً من لعبة الألوان والظلال، والأحجام والانعكاسات على تميّز خاص وبصمة لافتة، تماماً كما يتميز الملحن بجملته الموسيقية فتحزره فور سماع اللّحن، أو الأديب بصياغته اللغويّة فتتعرف عليه قبل توقيعه اسمه في آخر النص، أو الشّاعر ببنائه القصيديّ فتدرك صاحب القصيدة أو تكاد، من البيت الأول.

خلال مشواره الفنّيّ الممتدّ لحوالي الثلاثة عقود، انتقل شوقي دلال من لوحات البدايات التي طغت عليها الرسوم المكرّرة والمنمنمات السجادية المتنوّعة، إلى مرحلة المزج بين الرسم الفرعونيّ الجداريّ واللّعب على الأشكال والوجوه. وقد قلتُ له يومها إن في لوحاته شيئاً من الخربشات الطفولية وشيئاً من بيكاسو، على خصوصية واعدة بشيء ما أجمل. هذا الأجمل رآه قبل سواه المطران جورج خضر الذي كان شديد الإعجاب بلوحاته، وتفرّس به سعيد عقل الذي منحه جائزته على لوحته سمفونية الأصفر، كاشفاً بحدسه العبقري مكامن الابداع الخفي في اللوحة الجميلة.

تلك المرحلة كانت أشبه بالفترة الجنينيّة لإبداع شوقي دلال، الساعي الدؤوب والباحث الدائم عن مكامن الجمال، تمهيداً لرسمه على طريقته، ونقله للرائي بشكل مغاير للسائد، بحيث يمكن أن تُقرأ أية لوحة من لوحاته بأشكال مختلفة، ومقاربات متعددة وانطباعات متمايزة، في انعكاس واضح للهامش الكبير الذي يتركه الرسام للمتلقي ومخيلته الخاصّة وذائقته الجمالية، وهو الهامش الذي يشكل خصوصية اللوحة وبعدها الإبداعي.

لكن النقلة النوعيّة في فن شوقي دلال، والتي تلت مرحلة المخاض وصولاً الى الولادة الابداعية تمثلت في السنوات
الأخيرة بالتحول من اللوحات الجداريّة ذات البعد التاريخيّ الذي يعود بأصوله الى العصر السومري أبجدية إينانا مع ما تحمله تلك الجداريات من مكامن إبداعيّة متنقلة، إلى اللوحات المائية العاكسة للأماكن، حيث يقف رسامنا المرهف عندها ليتحول بلعبة اللون والظل، من مُشاهد الى شاهد، ولينقل المشهد الى المتلقي مكثِّفاً الخصوصيات وملطِّفاً العموميات، حتى ليبدو المكان لمحة متخيلة في عين الرائي، تتجدد كل مرة بنكهة خاصة عند استعادة ذكراها من جديد.

في لوحته الأخيرة لسوق النورية في بيروت الخمسينيات، يكرّس شوقي دلال نفسه رساماً مبدعاً يتقن فن اختيار الألوان، حيث يطغى اللون البرتقالي ليشي لك بأنّ المشهد مأخوذ عند الغروب، فتبدو الأجسام أقرب إلى الاشباح، أما الوجوه فليست أكثر من مشحة ريشة بلون برتقالي واحد، فيما تبدو مقدمة اللوحة مشبعة بالنور كانعكاس للشمس الغاربة يكاد يلامس الانبهار.

أما الخلفية ففيها تلاعب جميل بالأشكال حيث الشباكان غير متشابهين، والقنطرة غير مكتملة والعتمة داخلها تجعلها تبدو كأنّها نفق، والجدران شبه خفية كأنها أفق مفتوح، وهذا ما يكسب اللوحة فرادة مميزة وجمالية لافتة وبساطة ممتنعة.

وهكذا يتبدى أمامنا شوقي دلال بريشته المميزة وبصمته الخاصة فناناً تشكيلياً من طراز خاص، شقّ طريقه الإبداعي بمثابرة حثيثة حتى تجلت موهبته الحقيقية رساماً لا يرسم الأمكنة، وإنّما خيالاتها الراقدة في غياهب الذاكرة ، والتي تلوح لرائيها لو أنّه أغمض عينيه للحظة، لاستعادتها من مخزون الذكريات الى رحاب المخيلة من جديد.

*طبيب وكاتب

لقراءة المقال في جريدة النهار يرجى الدخول الى هذا الرابط 👇
https://www.annahar.com/arabic/culture/02032022102036964

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى