راغدة درغام: شهر شباط بين حبال الدبلوماسيّة وأعاصير المواجهة
صدى وادي التيم – من الصحافة العالمية /
كتبت راغدة درغام..
شهر شباط بين حبال الدبلوماسيّة وأعاصير المواجهة
تأخذ مفاوضات فيينا الرامية لإحياء الاتفاقية النووية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيّزاً من الأهمية في المحادثات الأميركية – الأوروبية والأوروبية – الروسية التي تركّز على الأزمة الأوكرانية وسُبل تفادي مواجهة روسية – غربية عسكرية.
التقاطع بين المسألتين لا يضعهما على المستوى ذاته من الأهمية، علماً أن الأولوية الملحّة هي لاحتواء التوتر الخطير على الحدود الأوكرانية وفي دونباس وعبر المناورات العسكرية الروسية – البيلاروسية، وتلك التي تقوم بها أوكرانيا التي تحظى بدعم دول حلف شمال الأطلسي (ناتو).
الجميع يشير الى ضرورة وصول محادثات فيينا الى نهايتها – إما إيجاباً أو سلباً – مع نهاية شهر شباط، والبعض يتحدّث بلغة التفاؤل بالتوصّل الى تفاهمات تؤدّي الى نقلة نوعية في العلاقات الإيرانية – الغربية وسط كلام عن لقاءات مباشرة أميركية – إيرانية يتكتّم الطرفان عليها، لكنها بيت القصيد في المباحثات النووية. ألمانيا ومستشارها الجديد أولاف شولتس الذي خَلَف أنجيلا ميركل يلقيان اهتماماً في الملفين، الإيراني والأوكراني، نظراً الى الأهمية المميزة لألمانيا في المسألتين. فألمانيا مهمة لروسيا لاعتبارات عديدة، منها مسألة الغاز، وهي تقليدياً من أنصار إيران في المفاوضات النووية، وفي طليعة الدول الأوروبية التي تضغط على إدارة بايدن لتتنازل أكثر فأكثر تلبية للمطالب والشروط الإيرانية. أولاف شولتس التقى الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي، وهو سيتوجّه الى موسكو للقاء نظيره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسط أجواء عضّ الأصابع خشية اندلاع مواجهة عسكرية بين روسيا ودول الناتو قد تحدث نتيجة شرارة وليس كقرار. فالقرار، حسبما يبدو، هو المضي بكامل الاستعدادات للمواجهة، فيما تستمر المباحثات الدبلوماسية الى حين انتهاء الألعاب الأولمبية في الصين في 20 شباط، وربما الى ما بعد الألعاب الأولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة 4-13 آذار (مارس).
فروسيا لا تنوي أن تُمطر على الموكب الاستعراضي للصين، لأنها في أشد الحاجة إليها كحليف استراتيجي في المواجهة مع الغرب. أما إيران فإنها شريك استراتيجي في المواجهة وفي المهادنة طبق التكتيك الروسي. فالكرملين يلعب أوراقه على نمط شد الأعصاب، وحبس الأنفاس، وعض الأصابع. والشهر الجاري قد يكون مصيرياً بين حبال الدبلوماسية وأعاصير المواجهة.
الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا باتت في مراحلها الأخيرة، كما تفيد المعلومات، وسط أجواء إيرانية وأوروبية متفائلة، ووسط تنازلات إضافية من إدارة بايدن خلاصتها رفع 90 في المئة من العقوبات المفروضة على إيران، وفي طليعتها تلك المعنية بالنفط والغاز. وهذه أولوية أساسية لطهران، لأن استئناف الصادرات النفطية يحرّر الاقتصاد الإيراني ويمكّن طهران من تنفيذ استراتيجيتها الآنية المتمثّلة في ما تسمّيه بعصر نهضتها الآتية renaissance.
موقف إيران الرسمي هو الإصرار على رفع كامل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، والاكتفاء بآليات مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA للبرنامج النووي الإيراني، وضمان واشنطن أنها لن تكرّر ما فعله الرئيس السابق دونالد ترامب بتمزيقه عام 2018 اتفاق JCPOA الذي أبرمه الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2015.
هناك مقترحات على طاولة فيينا في شأن البرنامج النووي ما زالت رهن الأخذ والعطاء، قوامها الإبقاء على العقوبات ذات العلاقة بالبرنامج النووي لفترة زمنية محدودة، نحو ستة أشهر، يتم خلالها التيقّن من عدم استيراد طهران المواد المحظورة تحت غطاء التكنولوجيا الضرورية للبرنامج النووي السلمي.
روسيا مهتمة جداً برفع العقوبات عن كامل الصادرات والواردات، لا سيّما العسكرية منها، نظراً الى العقود الضخمة بينها وبين إيران التي هي في أشد الحاجة إليها الآن. الصين لها علاقات نفطية مستمرة مع إيران، وهي أقل حاجة لرفع العقوبات العسكرية، لكنها تدعم كلاً من روسيا وإيران في هذا المسعى. الثلاثي الصيني – الروسي – الإيراني يتفق على فحوى المواقف الإيرانية من رفع كامل العقوبات مئة في المئة، الى الضمانات الدبلوماسية الأميركية، الى الاكتفاء بآليات الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA من دون آليات مراقبة إضافية.
موسكو تريد أن تبدو أنها جاهزة للتحدّث مع إيران للتأثير النسبي في مواقفها لتسهيل تنفيذ اندفاع الرئيس جو بايدن لإبرام الصفقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي المعلومات، أن الرئيسين بايدن وبوتين كانا سيتطرّقان الى المسألة الإيرانية أثناء محادثاتهما الهاتفية التي كان مقرراً مبدئياً إجراءها الأسبوع المقبل في أعقاب زيارة شولتز الى موسكو والتي يعتبرها الكرملين مفصليّة. إلا أن التطورات التي طرأت أدّت الى اجراء المخابرة الهاتفية اثناء العطلة الأسبوعية وركزت بالتأكيد على الأزمة الأوكرانية والأرجح أنها لم تتناول المسألة الإيرانية.
الأوروبيون والروس مندفعون للبناء على ما يعتبرونه جاهزيّة الرئيس بايدن واندفاعه لإتمام الصفقة مع إيران بأسرع ما يمكن، قبل أن يتمكّن الكونغرس من حشد المعارضة لها، ومن الفرض على الإدارة أن تعرض تفاصيلها أمام الكونغرس قبل توقيعها. حتى أن البعض مقتنع بأن فريق بايدن سيضع الكونغرس أمام الأمر الواقع بتوقيع الصفقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية أثناء فترة عدم انعقاد الكونغرس بين 21 و25 شباط. قد يكون هذا مجرد تمنّيات من المخيّلة الأوروبية والروسية، نظراً الى تداعيات مثل هذه الخطوة على إدارة بايدن. لكن هذه مشكلة بايدن وليست مشكلة أوروبا أو روسيا، بحسب التفكير الروسي والأوروبي.
فالأطراف الأوروبية المعنية بالاتفاقية النووية عادت الى الانصياع للمطالب الإيرانية، وهي تعتبر الكونغرس مشكلة بايدن وليست مشكلتها، وهذا هو أيضاً رأي روسيا. إنها متأهبة للاستفادة من رفع العقوبات عن إيران ولا يهمّها السلوك الإقليمي لإيران بعد أن تحصل طهران على كل الفوائد المترتّبة على خلاصها من العقوبات، بالذات من قطاع النفط والغاز.
ما تسوّقه أوروبا وروسيا اليوم هو ما تم تسويقه أثناء رئاسة باراك أوباما، وهو أن الصفقة النووية ستؤدي الى تلطيف السلوك الإيراني الإقليمي وتهذيبه. ما حدث حينذاك هو العكس، إذ إن الصفقة النووية مكّنت “الحرس الثوري” الإيراني من توسيع رقعة نفوذه وتعميقها، من العراق الى سوريا الى اليمن الى لبنان. وما سيحدث الآن قد يكون استراحةً قصيرة المدى ريثما تتم إعادة ترتيب بيت النظام في طهران لإعلان نصره الاستراتيجي ونهضته الاقتصادية. ثم يعود رجال النظام، بالذات “الحرس الثوري”، الى استئناف مشروع تصدير نموذجه لإحيائه في مكان ولتقويته في مكان. وما هجمات الحوثي على مواقع في السعودية والإمارات سوى مثال على ما في ذهن القيادات الإيرانية.
فالضعف الأميركي، في نظر القيادة الإيرانية، إنما هو تأشيرة استقواء لها بالذات في الجغرافيا العربية. قد تتمكّن إدارة بايدن من ضبط الأمور بين إسرائيل وإيران، أثناء المحادثات الأميركية – الإيرانية الثنائية التي ستُعقد، أو لربما تُعقَد سرّاً في ألمانيا كما عُقدت في الماضي عام 2015 في عُمان. ذلك أنه من الصعب تصوّر اتخاذ إدارة بايدن قرار الانفصال الاستراتيجي عن إسرائيل مهما بدا ظاهرياً أن الاختلاف مصيري بينهما.
فإسرائيل تبقى مسألة داخلية أميركياً، ونفوذها مع الكونغرس لا يُستهان به. لذلك، إن شيئاً خفيّاً لعلّه يحدث على ضفاف المحادثات النووية مع إيران للدول الـ5+1، ليصبّ في صميم الخانة الإيرانية – الإسرائيلية.
الروس مقتنعون بأن نفوذهم لدى إسرائيل جدّي وفعّال لأسباب عدة، منها اقتصادية، ومنها استراتيجية بالذات في سوريا، ومنها نتيجة التحالف الروسي – الإيراني وانعكاسه على لبنان، ومنها ما له صلة بالعلاقات الشخصية بين القيادات العليا الروسية والإسرائيلية. الورقة الإيرانية ثمينة في العلاقات الروسية – الإسرائيلية والعكس بالعكس. صحيح أن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية ذات مستوى مختلف، لكن من وجهة النظر الروسية، موسكو قادرة على لعب الورقة الإيرانية بصورة مختلفة مع إسرائيل أكثر مما واشنطن قادرة عليه.
اليوم، وفي هذا المنعطف، تريد روسيا أن تلعب دور العرّاب المفيد للعلاقات الإيرانية مع الغرب وحتى مع إسرائيل، تهادنياً. محادثات وزير الخارجية الروسي مع نظيرته البريطانية حول الأزمة الأوكرانية هذا الأسبوع خرجت بنبرة تشاؤمية وسلبية، لكنها توصّلت الى تفاهمات حول المحادثات النووية في فيينا، بحسب المصادر المطّلعة. فهناك تقاطع بين الأمرين، وأجواء اليوم قد لا تكون أجواء الغد إذا تعقّدت جذرياً المساعي لحلول دبلوماسية للأزمة الأوكرانية. فموسكو ستحتاج إيران أداة حادة للتصعيد إذا ما تطوّرت الأمور الى المواجهة مع الدول الغربية.
المحطة المقبلة للقطار الدبلوماسي تتمثّل في زيارة المستشار الألماني للعاصمة الأوكرانية كييف في 14 شباط، ثم لموسكو في 15 منه، والتي يعتبرها الكرملين زيارة حاسمة “تضيء بوضوح الخطوط الحمر”، بحسب تعبير مصدر روسي قال إن تلك الزيارة هي على الأرجح “الفرصة الأخيرة”. زيارة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون من حيث الفحوى كانت مشابهة للإخراج كما بيّنت صورة اللقاء بينه وبين بوتين، والتي أثارت السخرية بسبب تباعدهما في الجلوس الى الطاولة. السبب الرسمي وراء التباعد الرئاسي هو رفض ماكرون الخضوع لإصرار الروس على فحص PCR على أيديهم، ما اضطر الى حماية بوتين من التقارب على طاولة المحادثات. المهم، لم يحدث أي تقدّم في المحادثات، وبحسب مصادر روسية، توجّه ماكرون الى بوتين بأفكار فرنسية لا بأفكار أوروبية أو أطلسية، لأن الرئيس الفرنسي لم يعرضها على شركائه قبل طرحها على الرئيس الروسي.
الأنظار تتوجّه هذا الأسبوع الى ألمانيا ومستشارها الجديد أولاف شولتس في الملفين الأوكراني والإيراني، لكن القرار في المسألتين عائد الى الرئيس الأميركي جو بايدن إيرانياً والى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانياً. وشهر شباط قد يكون حقاً مصيرياً.
* المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها *