قاعدة أميركية في لبنان: واشنطن “راجعة”!

صدى وادي التيم- لبنانيات/

منذ أيّام نُشِر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر بالتفصيل مراحل بناء السفارة الأميركية في عوكر. تضمّن الفيديو صوراً من الجوّ، التقطتها طائرة مسيّرة، لا يمكنها التحليق فوق السفارة من دون موافقة أميركية.

هي رسالة سياسية بلا أدنى شكّ، وليست استعراضاً “هندسياً” لمراحل البناء. وهي رسائل تتجاوز حدود لبنان ودوائر مواقع التواصل الاجتماعي فيه، وتصل إلى الإقليمي والدولي. ومن هذا الباب يمكن قراءتها وتحليلها.

أيضاً لم يكن عشوائياً السياق الزمني للنشر. في الواقع بدأت الرسائل المباشرة في شهر آب الماضي، حين أعلن ن ص ر ا ل ل ه استقدام بواخر مازوت من إيران، فردّت عليه واشنطن بإعلان غير نهائي باستثناء لبنان من “قانون قيصر” المتعلّق بالعقوبات على سوريا، لتسهيل تمرير الكهرباء والغاز من الأردن ومصر عبر الأراضي السورية.

وفي لبنان لم يكن غريباً على كلّ عابر قرب مقرّ السفارة الأميركية في عوكر رؤية المساحات الشاسعة المخصّصة للبناء. ولم يكن غريباً إدراك أنّ عملية البناء غير تقليدية، ولا تتعلّق بسفارة عادية، بل بسفارة يُفترض أن تحتلّ مركزاً أساسيّاً في الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط وشرق المتوسّط.

السكان المجاورون للسفارة يشهدون أنّ وتيرة أعمال البناء لم تتراجع قطّ منذ البدء بها، على الرغم من أزمة كورونا. وهو ما تجلّى واضحاً من خلال الارتفاع المستمرّ للطوابق في المنشآت. ويتحدّث البعض عن حركة سير لا تنتهي من وإلى السفارة، إلى درجة الاستنتاج أنّها “ليست سفارة، بل قاعدة ضخمة” هي الثانية بعد العراق في الشرق الأوسط.

2023: قاعدة عسكرية؟

وفي انتظار موعد افتتاح السفارة في عام 2023، تبدو الأعمال العسكرية الأميركية في قاعدة حامات الجويّة اللبنانية قائمة على قدم وساق، إضافة إلى وجود مراكز أميركية في مناطق عدّة، خصوصاً بين قضاءي جبيل والبترون.

يقول المتابعون لهذه الحركة إنّها تجيب على الكثير من الأسئلة التي طُرحت في العامين الماضيين عن الانسحاب الأميركي من لبنان. وهي رسالة يتقصّد الأميركيون توجيهها إلى خصومهم، وتحديداً ح ز ب ا ل ل ه وحلفاءه. ولعلّ الصور المنشورة عن حجم السفارة في عوكر جاءت لتجيب كلّ مَن حاضر خلال الأشهر الماضية حول الانسحاب الأميركي من لبنان، وعن خسارة المحور الأميركي المواجهة في المنطقة وفوز محور الممانعة.

لا يعني هذا الكلام أنّ الولايات المتحدة لم تعدّل في سياستها اللبنانية. لكن في حين بدا هذا التعديل انسحاباً، كان في الواقع تراجعاً في مكان ما، وتقدّماً خطواتٍ إضافية في مكان آخر. وبدلاً من توكيل تنفيذ سياستها إلى حلفائها الذين “فشلوا في المهمّة الموكلة إليهم منذ سنوات”، تحوّلت إلى لاعب أصيل أساسيّ في الداخل اللبناني، ومؤثّر في السياسة اللبنانية.

بحسب المعلومات والكلام المعلن والمتداول عن السياسة الأميركية في لبنان، فإنّ الخارجية الأميركية تعمل في لبنان على “المدى الطويل”. حتى إنّ الموظّفين في السفارة يدركون أنّ إقامتهم ستدوم طويلاً. واللافت، وفق مراقبين، أنّ عمليّة البناء لم تتأثّر بالانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في العام الماضي، ولا بأزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية في الداخل الأميركي.

كلّ ذلك يُضاف إلى الدعم الأميركي للجيش اللبناني الذي يتّخذ مساراً تصاعدياً على اعتبار أنّ المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الجامعة التي يُفترض بها وحدها أن تواجه “السلاح المتفلّت”، وهي البديل عن “السلاح خارج إطار الدولة”.

انطلاقاً ممّا سبق، يقول المراقبون إنّ الكباش الأميركي – الإيراني على لبنان أمر واقع وحقيقي، وإنّ الطرفين ينطلقان من حسابات أشمل تطاول اليمن وسوريا والعراق. في اليمن، شغلت معركة مأرب عواصم القرار الإقليمي وصولاً إلى واشنطن، خصوصاً بعد انقلاب مجرى التطوّرات من تقدّم للحوثيين، المدعومين من إيران، إلى تقدّم القوى الشرعية اليمنية بدعم من التحالف العربي، قبل ثبات خطوط المعركة.

في العراق، لم ترضَ فصائل “الحشد الشعبي” بالنتائج النهائية للانتخابات التشريعية، التي أعلنتها مفوضية الانتخابات الأسبوع الماضي. وهي نتائج أضعفت المعسكر الموالي لإيران بشدّة، خصوصاً مع تمسّك التيار الصدري بأحقّيّة دوره، كأكبر كتلة انتخابية، في تشكيل الحكومة العتيدة.

في سوريا، لا يمكن وضع زيارة الوفد الرسمي السوري، برئاسة وزير الخارجية فيصل المقداد، إلى إيران أخيراً، في سياق تأكيد الحضور الإيراني العسكري في سوريا، بقدر ما يعني التأكيد على عمق التحالف بعد الانسحاب الإيراني من هناك. وذلك بعد تقليل طهران عديد قواتها في سوريا من جهة، وتنامي مساحات النفوذ الروسي على حسابها من جهة أخرى.

في كلّ تلك المحطات تبقى ثلاث ثوابت أساسية.

– الثابتة الأولى هي حتميّة انسحاب القوات الأميركية من العراق في موعد أقصاه 31 كانون الأول الحالي. لكنّ الانسحاب لا يعني خروجاً من الشرق الأوسط. ففي عام 2011، غادر الأميركيون العراق، قبل العودة للقتال ضدّ “د ا ع ش” في عام 2014. يُضاف إلى ذلك بقاء المصالح الأميركية في كردستان وفي الجنوب العراقي، حيث ثقل الفصائل الموالية لإيران. مما يعني بقاء 2400 عسكري أميركي على الأراضي العراقية بحسب مصادر رسمية أميركية.

– الثابتة الثانية هي عدم ارتباط وجود الأميركيين في سوريا بوجودهم بالعراق في الشكل، على اعتبار أنّ العراق الرسمي حليف وثيق للأميركيين، وجيشه يخضع لتدريبات أميركية متلاحقة، فيما يعمل الأميركيون في سوريا على مساعدة “قوات سوريا الديموقراطية” (ق س د)، وفصائل أخرى، شرق الفرات وغربه. وترفض واشنطن أيّ انفتاح عربي على دمشق، في إطار تمسّكها بالقرار 2254 كمشروع حلّ للقضية السورية. لذلك تبقى علاقاتها مع روسيا ميزاناً للتعامل في الملفّ السوري على قاعدة ترسيخ النفوذ الروسي في سوريا والنفوذ الأميركي في لبنان عشيّة التنقيب عن الغاز قبالة شواطئ البلدين.

– الثابتة الثالثة أنّه لا يمكن للأميركيين في خضمّ تعثّر مفاوضات فيينا، وفي ظلّ سيطرتهم على مفاصل أساسية في العراق وسوريا، أن يسمحوا بتحوّل لبنان إلى قاعدة إيرانية، على اعتبار أنّ مصالحهم المترابطة في شرق المتوسط، بين لبنان وقبرص واليونان وإيطاليا، لا تسمح لهم بترف التفريط بهذه الوضعيّة.

أمّا في سياق التفرّغ الأميركي للصين، فلا يعني ذلك إطلاقاً الانسحاب من مكان يعبر فيه، ولو بشكل ثانوي، طريق الحرير الصيني الجديد.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التحدّيات المتصاعدة في أوكرانيا تدفع واشنطن إلى زيادة انتشارها العسكري هناك، بطريقة مشابهة للحرب الباردة (1947-1991). وهذا الترابط الجغرافي من البلطيق إلى شرق المتوسط، مروراً بالبحر الأسود، يُظهر أنّ للولايات المتحدة حسابات وجودية غير مرتبطة بأيّ انسحابات.

لذلك، إذا أراد اللاعبون على الساحتين السياسيّتين الداخلية والإقليمية، على حدٍّ سواء، قراءة مسار الاشتباك أو الصراع في لبنان والمنطقة، فعليهم قراءته انطلاقاً من تحوُّل الأميركي من لاعب بالوكالة عبر حلفائه إلى لاعب بالأصالة، وغير ذلك أوهام فقط.

جوزفين ديب- أساس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!