زيادة بدل النقل لشهر تساوي شراء 750 حافلة نقل عام؟

صدى وادي التيم- إقتصاد/

قبل كلّ انتخابات نيابية، نحن على موعد مع “رشوة” تقدّمها السلطة لناخبيها. قبل انتخابات العام 2018، أقرّت السلطة “سلسلة الرتب والرواتب”، ومنحتها لموظّفي القطاع العام بشكل عشوائي أهوج، فتسبّب إقرارها، إلى جانب عوامل إضافية أخرى، بانكشاف الوضع الماليّ والنقدي. أمّا اليوم فيجري الحديث عن “رشوة” أخرى مشابهة تخصّ بدل النقل لا تخلو من الريبة والشكّ في توقيتها.
بدل البحث عن الإصلاحات الاقتصادية، وعن وضع خطط مبتكرة لتوفير وسائل نقل عامّ، ولو بما تيسّر وبشكل سريع، تبحث السلطة في الحلّ الأسرع والأكثر ضرراً: زيادة بدل النقل. بمعنى آخر، يمكن القول إنّ السلطة تبحث عن وسيلة لنفخ الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية “الكاش”، فتتسبّب لها مجدّداً بمزيد من الانهيارات، وبارتفاع مؤشّرات التضخّم، الذي سيستتبع ارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسيّة.
تتناقل الصحف والمواقع اللبنانية خبراً يفيد بقرب وصول المفاوضات بين الهيئات النقابية والحكومة إلى إقرار زيادة بدل النقل والأجور للقطاعين العامّ والخاصّ، وترجِّح أن يحمل الشهر المقبل ما تعتبره “بشرى سارّة للّبنانيين”. الزيادة على الأجور لا تزال غير واضحة المعالم، ولا يبدو أنّها ستبصر النور سريعاً، لكنّ الحديث الجدّيّ يطول الزيادة في بدل النقل العامّ، الذي حدّده رئيس الاتّحاد العمّاليّ العامّ بشارة الأسمر، في أكثر من مناسبة، بـ100 ألف ليرة، أو ما يعادل 5 دولارات يوميّاً.
إذا عدنا إلى عدد الموظفين في الإدارات العامّة، يتّضح، بحسب “الدوليّة للمعلومات”، أن لا إحصاء رسميّاً دقيقاً في هذا الشأن بسبب التسميات الوظيفية المتنوّعة: موظّف، متعاقد، أجير، متعامل… وبسبب تعدّد الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديّات (؟؟)، ولكن يُقال إنّ الرقم الصحيح، إلى حدٍّ ما، يبلغ قرابة 320 ألفاً يتوزّعون كالتالي: 120 ألفاً في القوى الأمنيّة والعسكريّة من الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العامّ وأمن الدولة وشرطة مجلس النواب، و40 ألفاً في التعليم الرسمي، و30 ألفاً في الوزارات والإدارات العامّة، و130 ألفاً في المؤسسات العامّة والبلديّات، ويُضاف إلى هؤلاء كلّهم نحو 120 ألفاً من المتقاعدين، أكثريّتهم من العسكريّين والمدرّسين.
وعليه، إذا استثنينا المتقاعدين الذين لا يستفيدون من بدل النقل، سيبلغ عدد الذين ستطولهم الزيادة نحو 320 ألف موظّف سيحصلون شهريّاً على ما يعادل 25 يوم عمل، أي 2.5 مليون ليرة لبنانية. يكشف هذا الرقم، إن وافقت عليه الحكومة، أنّ الزيادة في الكتلة النقدية شهريّاً سيكون 750 مليار ليرة لبنانية (37.5 مليون دولار) أو ما يعادل 9 تريليون ليرة سنوياً (450 مليون دولار).
ماذا يعني هذا الرقم؟ وعلى ماذا سيؤثّر تحديداً؟
1- ممّا لا شكّ فيه أنّ ماليّة الدولة لا تتوافر لديها إيرادات لتغطّي هذا الرقم، ولمّا كانت لا تملكه، فإنّها ستطلب من مصرف لبنان ضخّ 750 مليار ليرة إضافية شهريّاً، وستقيّده على شكل دين في ميزانيّاتها، دافعةً المصرف المركزي إلى الخطّ الأحمر الذي يسعى منذ أشهر إلى الابتعاد عنه. تشير أرقام المصرف المركزيّ الأسبوعيّة (أقلّه في الأسبوعين الماضيين) إلى أنّ كتلته النقدية تتضخّم ما بين 700 و900 مليار ليرة لبنانية أسبوعيّاً، وهذا يعني أنّ مع إقرار بدل النقل سيكون معدّل الزيادة الشهريّة للكتلة النقديّة قرابة 3 تريليونات ليرة.
2- سيفتح إقرار هذه الزيادة عيون صندوق النقد الدولي على عدد موظّفي القطاع العام، وحجم الإنتاجيّة، وتوزيع هؤلاء على الإدارات. يحصر الصندوق حتى اللحظة اهتماماته بـ5 مواضيع أساسيّة يعتبرها كافية للعبور بلبنان إلى برّ الأمان في الوقت الحاضر، وهي: إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، توحيد أسعار الصرف، ضبط الجمارك والتهريب، الالتزام بمعالجة الكهرباء وشبكات الأمان الاجتماعي. لا يُستبعد أن تؤدّي الزيادة على بدل النقل إلى طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة “ترشيق” القطاع العامّ من أجل تخفيف النفقات، أي التسبّب للآلاف بفقدان فرص عملهم في هذه الظروف الصعبة، على الرغم من تغيُّبهم عن العمل في أغلب أيام الأسبوع وانعدام الإنتاجيّة.
3- زيادة الكتلة النقدية اللبنانية بين أيدي الناس (الموظّفين وغير الموظّفين) ستعني حكماً زيادةً على طلب الدولار “الفريش” في السوق الموازية، خصوصاً مع تحرير سعر المحروقات من مازوت وبنزين، وهما أصلاً سبب لطلب هذه الزيادة على بدلات النقل، التي تعني حكماً ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي سيدخلنا بدوره في حلقة تضخّم في سعر المحروقات قد لا تنتهي، ولا يُستبعد أن يصل سعر صرف الدولار في هذه الحالة إلى 30 وربّما 40 ألف ليرة (تحدّثنا في المقال السابق عن العلاقة الجدليّة بين الطلب على الوقود وبين ارتفاع سعر صرف الدولار).
في المحصّلة، يمكن القول على نحو قاطع إنّ الزيادة على بدل النقل ليست السبيل الأفضل من أجل حلّ مشكلة حضور الموظفين إلى العمل، هذا إن كانت المشكلة فعلاً هي عدم قدرتهم على بلوغ الإدارات العامّة. أمّا الحلّ الأنجع لهذه الأزمة فيكون باستبدال الزيادة بتوفير وسائل نقل خاصّة بالقطاع العامّ، تُنظّم وتُرسم خطط سيرها بدقّة، وحتماً لن تصل التكلفة الكاملة إلى حجم الزيادة عن شهر واحد من تلك الزيادة التي يتحدّثون عنها (إن كان سعر الباص 50 ألف دولار يمكن شراء 750 حافلة ببدل نقل شهري واحد).
لكن يبدو أنّ هذه الزيادة، بحجمها وبتوقيتها المريب، ليست إلاّ “رشوة” تسبق الانتخابات النيابية بأشهر، وتستمرّ إلى ما بعدها، فترتدّ مفاعيلها على كاهل المواطنين بلا استثناء، وبدل الزيادة الواحدة تنشأ زيادتان: الأولى في سعر صرف الدولار، والثانية في سعر المحروقات… فأهلاً وسهلاً بالإصلاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!