38 عاماً على رحيل عملاق الأغنية الشعبية.. نصري شمس الدين لم يمت في ذاك الليل
صدى وادي التيم – فن /
تحلّ اليوم، في 18 آذار 2021، الذكرى الثامنة والثلاثين لرحيل عملاق الأغنية الشعبية والتراثية اللبنانية نصري شمس الدين، إذ في مثل هذا التاريخ من العام 1983 سقط نصري شمس الدين على المسرح في سوريا نتيجة نزيف دماغي حاد بينما كان يؤدي وصلة غنائية، ما أدى إلى وفاته في عزّ عطائه عن 56 عاماً، وووري بعدها جبانة بلدته جون (الشوف)، بيد أن نصري لم يمت في الذاكرة الشعبية اللبنانية والعربية الحيّة، ولا في قلوب محبّيه والمعجبين بفنّه، ولا في الإرث الكبير الذي تركه لنا من أغنيات خالدات، لا سيما أنه بقي حتى اليوم، إلى ريادته في الأغنية الشعبية، رائداً للأغنية الفلكلورية وفي ما يعرف بالدبكة اللبنانية.
في العام 2017، أعاد محبو الفن الأصيل والأوفياء لمسيرة هذا العملاق، إلى جانب فاعليات بلدته جون، بعض الحق الضائع لنصري على الدولة اللبنانية، فوضعت بلدية جون جهدها الكبير لتكريم الراحل العملاق، في مناسبة مرور تسعين عاماً على ولادته، فأقامت متعاونة مع وزارة الثقافة اللبنانية والوزير الدكتور غطاس خوري ولجنة احياء تراث نصري شمس الدين وجمعية بيت المصوّر في لبنان ومنتدى حفظة الذاكرة مهرجاناً حاشداً شاركت فيه فرقة الاوركسترا الشرق عربية بقيادة المايسترو اندريه الحاج وغناء الفنان جلبير جلخ، وصدرت في هذه المناسبة ميدالية مذهبة تحمل رسمه باللباس التراثي (تنفيذ شركة عبسي للميداليات)، وأزراراً مذهبة فضلاً عن 8 بطاقات بريدية لصور نادرة للراحل الكبير، ضمن علبة خاصة.
ولم يطل الأمر حتى صدر عن وزارة الاتصالات و”ليبان بوست” بتاريخ 19 تشرين الأول 2017 الطابع البريدي “المنتظر 34 عاماً” الذي يحمل صورة الفنان نصري شمس الدين ومغلفه التذكاري (من تصميم الإعلامي كامل جابر) بجهد من النائب محمد الحجار ورئيس بلدية جون جورج مخول والجمعيات المشاركة في التكريم، وأقيم في مناسبة صدوره مهرجان حاشد في مدينة النبطية بتاريخ 18 تشرين الثاني 2017 بالتعاون مع مركز كامل يوسف جابر الثقافي الاجتماعي وجرى توزيع مغلف تذكاري يحمل الطابع على الحضور من تصميم (كامل جابر) ورسم الفنانة التشكيلية خولة الطفيلي وخطوط الفنان علي عاصي، إضافة إلى بطاقة بريدية من نوع ماكسي كارد.
لقد ملأ نصري شمس الدين الساحة الفنية والطربية، والعالمين العربي والغربي بصوت دافئ نادر، مانحاً الأغنية الشعبية اللبنانية نكهة مميزة ولوناً قلّ مثيله فذاع صيتها وانتشرت انتشار النار في الهشيم، لذلك، لم يسقط نصري شمس الدين في ذاك اليوم المشؤوم من آذار، بل ارتفع ليحلّق كما كان صاحبه، تاركاً لنا رصيده الفني المميز، في القلب والبال والذاكرة والوجدان.
وإذا كانت الجهات الرسمية والفنية اللبنانية قد أشاحت اهتمامها عن الفنان الكبير نصري شمس الدين، عن قصد أو غير قصد، إلا أن أيقونة الأغنية الشعبية اللبنانية والفلكلورية والرومانسية، نصري شمس الدين تبقى حاضرة في ضمير ووجدان وفي عقل كل من انتمى إلى هذا التراث الوطني، بل إلى هذه الثروة الوطنية التي شكل نصري أحد مداميكها الأساسين.
عانت عائلة نصري شمس الدين ومحبوه، بعد رحيله من تهميش لكل تراثه وسيرته، ولم تكرمه الدولة اللبنانية كما يجب، أو تهتم بأرشيفه وإرثه الفني الذي تناتشته الفوضى الإعلامية، وتجاهلت ما بقي من رصيد غنائي، لم ينشر حتى اليوم، وهو كناية عن عشرات الأغاني المسجلة بالصوت والموسيقى.
لكن، ما زال أمير مسرحية “فخر الدين” أميراً للأغنية الشعبية اللبنانية، ولأغاني الشوق “كيف حالهن كيفهن حبايبنا” والحب والعاطفة حدّ الجنون “شفتا وجنّيت لمن مرقت بالساحة…”، وروائع الدبكة.
نصري شمس الدين في سطور
(27 يونيو/ حزيران 1927- 18 مارس/ آذار 1983)
ولد نصر الدين مصطفى شمس الدين في بلدة جون في 27 حزيران 1927، من أسرة تعرف بعائلة “المشايخ”؛ وكان الوالدان يتمتعان بصوتين رائعين، خصوصاً الوالدة، ما أكسب أصغر أشقاء البنات الثلاث والأبناء الصبيان الستة نصري، هذا الصوت المميز، بعدما ساعدت الوالدة في صقل الموهبة، التي كان يطيب لها سماع ابنها وهو يدندن أغاني كارم محمود.
بعد مدرسة جون الابتدائية، التي تابع فيها نصري دراسته الأولى، انتقل إلى مدرسة المقاصد في صيدا. وفي سن السابعة عشرة، وقبل إتمام المرحلة الثانوية، انتقل إلى تدريس مادة اللغة العربية في مدرسة شبعا في قضاء حاصبيا، ثم في مدينة صور. وبعد حفلة غنائية اقامها أمام التلامذة عازفاً على العود الذي يرافق الصوت الصداح في العتابا والمواويل؛ في الثانوية الجعفرية في صور، تدخل المدير “بكل محبة” وخيّر نصري بين مهنة التدريس أو الغناء، وكان أن اختار نصري ما يرغب ويعشق، الفنّ والطرب.
ينتقل نصري إلى مصر ليعمل في شركة “نحاس فيلم”، ثم إلى بلجيكا ليدرس الموسيقى ويعود إلى بيروت حاملاً دبلوماً في الموسيقى؛ ولأنه لم يوفق في المجال الذي يرغب، يعمل نصري موظفاً في مركز البريد في بيروت في نطاق الاتصالات الهاتفية. وتتدخل الصدفة بعد العام 1952، إذ يقرأ نصري إعلاناً في إحدى الصحف اللبنانية مفاده ان إذاعة “الشرق الأدنى” تبحث عن مواهب فنية شابة، فسارع إليها؛ ليقف ممتحناً أمام لجنة حكم كانت مؤلفة من: عاصي ومنصور الرحباني، عبد الغني شعبان، حليم الرومي وغيرهم، تقرر ضمه إلى الفريق الغنائي في الإذاعة التي أصبحت تعرف لاحقاً بإذاعة “لبنان الرسمية”. ومن هناك انطلق نصري شمس الدين في مشواره الفني عندما أدى ثلاثة اسكتشات غنائية “مزراب العين” و”حلوة وأوتوموبيل” و”براد الجمعية”؛ ثم يطلق أغنيته الخاصة الأولى، “بحلّفك يا طير بالفرقة” وهي من ألحان المبدع فيلمون وهبي، الذي ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في صداقة حميمة ورفقة مشاوير “عيد العصافير” إلى جانب إيلي شويري ووليم حسواني.
ومع فيروز شكل نصري عاموداً رابعاً في المسرح والفن الرحباني الذي انضم إليه عام 1961 و”انفرد” عنه في العام 1978، بعد مسرحية بترا وافتراق فيروز عن عاصي، لينطلق بأغان وألبومات منفردة توّجها في ألبوم “الطربوش” من تلحين ملحم بركات. وشارك نصري في تأليف وتلحين بعض أغانيه على نحو أغنية “ليلى دخل عيونها” ولحّن قصيدة “بعرسك جيت غنيلك قصيدة” التي غناها في عرس ابنته ألماسة وهي من كلمات مصطفى محمود.
تزوج نصري شمس الدين في العام 1956 من يسرى الداعوق وأنجب منها: مصطفى وألماسة (توأمان)، مي وماهر، ريما ولين (توأمان). وقبل توجهه إلى “سوريا حيث كان مقرراً إحياء حفلته الغنائية، أصبتُ بوعكة صحية، شعرت بوالدي وكأنه انهار، يعانقني يروح ويجيء في البيت، وما أن دخل إلى الحمام حتى سقط وشجّ رأسه، بعدها عبر عن رغبته في تأجيل الحفلة ليبقى إلى جانبي، فأخبرته بأنني صرت بحال جيدة ولديه ارتباطات لا يمكن إلغاؤها. بعدها تحدث عن الموت، إذ قال: “أشعر أنني سأموت قريباً”، استغربنا، وكان ما توقع، توفي كما والده نتيجة نزيف دماغي حاد”. بحسب ابنته ريما التي تملك صوتاً بروعة صوت والدها وشهادته، بيد أنها توقفت عن ذلك بعد وفاته، “لأنه لم يكن يرغب أن أسلك هذه الدرب المليئة بالأشواك”.
بعد وفاته حاول ابن عم نصري، عادل شمس الدين تأدية أغاني نصري في المناسبات من أجل ديمومتها، بيد أن هو الآخر عاجله الموت المفاجئ عام 2006 قبل أن يبلغ الخمسين.
ترك نحو 500 عمل بين أغنيات عاطفية ووطنيّة ومواويل ودبكات. ظهر في معظم أعمال الرحابنة المسرحيّة والسينمائيّة والتلفزيونيّ بالإضافة إلى الأعمال والإسكتشات الاذاعيّة. تميز نصري شمس الدين بصوت رائع لا مثيل له اضافة لخفة دمه و روحه المرحة و هو يعتبر بحق عملاق من عمالقة الفن في لبنان والعالم العربي، ويعد نصري شمس الدين اضافة إلى وديع الصافي قد وضعا حجري الاساس لما يسمى الآن بالأغنية الجبلية اللبنانية، اهتدت الأجيال بهما في ما بعد.
ظهر نصري شمس الدين في أغلب مسرحيات الأخوين رحباني بأدوار متعدّدة ومتنوعة، كان أشهرها في تجسيد شخصية الأمير فخر الدي. تميّز بزيّه اللبناني الأصيل وبالطربوش، ولربما عانى نصري شمس الدين من الظلم لحلوله دائماً بالدور الثاني في المسرحيات بعد السيدة فيروز، إلا انه تعملق في بعضها بشكل مدهش لدرجة انه طغى على بطلة المسرحية فيروز وبدا ذلك واضحاً في مسرحية أيام فخر الدين.
كانت آخر أعماله مع الرحابنة في مسرحية “بترا” في العام 1978 بدور الوزير “ريبال” وانتهى التوافق مع الأخوين رحباني بنهاية هذه المسرحية، حيث ظهر نصري شمس الدين ولأول مرة في حياته كمطرب مستقل على أسطوانات وكاسيتات بما عرف بألبوم (الطربوش) ضمن مجموعة من الأغاني من ألحان ملحم بركات.
المصدر : كامل جابر – هوا لبنان