حكايات “أم كامل”: سيقان مترهّلة تربك سلاح الجو الاسرائيلي!

صدى وادي التيم – لبنانيات

لا يكاد يمرّ يوم من دون صوتها. تمرّ مُحدثة طنيناً متواصلاً في مسامعنا “كما طنّ في لوح الهجير ذباب” على ما يقول المتنبي. أخي لا يستطيع التأقلم مع صوتها. تكاد تصيبه بالجنون. يضع موسيقى في سمّاعات داخل أذنيه ليتخلّص من صوتها. أبي يكره حضورها اليومي في حياته لأنها تشوّش على سلواه الأساسية: التلفزيون. في كلّ ليلة تحتلّ “الملعونة” سماءنا، تصير مشاهدة التلفزيون عذاباً لأبي. تعاني المحطات الفضائية من تشويش يجعل مشاهدتها قصاصاً لا يحتمل. كلما احتلّت طائرة “أم كامل” السماء، تطرد أبي من غرفة الجلوس. يطفئ التلفزيون، ويضطر إلى متابعة الأخبار عبر الهاتف مع ما يترتّب على ذلك من معاناة مع التكنولوجيا والنظر الضعيف.

أمي تحمّل “أم كامل” مسؤولية تقصيرها في متابعة المسلسلات، إذ يتسبّب التشويش في عدم قدرتها على المتابعة بشكل ملتزم. تضطر إلى معرفة الأحداث من أخواتها وصديقاتها في بيروت، حتى تستطيع استكمال المسلسل بعد انقطاع البثّ أو تقطّعه بسبب الطائرة المشؤومة التي يعرفها الجنوبيون جيداً، وبدأوا يتعايشون مع صوتها المزعج.

في الفترة الأخيرة، أمضيتُ وقتاً طويلاً في قريتي الجنوبية مع ما فرضه فايروس كورونا من حجر، وإقفال، وتباعد اجتماعي، وعمل عن بعد. سماء الجنوب أشبه بمسرح يومي لخروقات جوية إسرائيلية، من طيران حربي، وآخر مسيّر. حتى ليخال المرء نفسه ساكناً إلى جانب مطار. والطائرات على أنواعها تجوب السماء فوق البيت: أم كامل بشكل شبه دائم، إذ قلّما يتوقّف طنينها في الجو ليستريح المرء من الصوت المزعج، والطائرات الحربية التي تحلّق على ارتفاعات مختلفة مُحدثة هديراً ضعيفاً حيناً وقوياً أحياناً، فضلاً عن طائرات الهيليكوبتر التابعة لليونيفيل التي تُجري دوريات جوية في سماء الجنوب بحثاً ربما عن خروقات أرضية يقوم بها “ا ل ح ز ب ” للقرار 1701. وهذه يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، تطير قريبة من الأرض.

الطائرات على أشكالها تحلّق في سماء الجنوب، ولا تقع. بعضها في أحيان قليلة يسقط نتيجة استهداف من المقاومة، وتكون طائرات صغيرة مسيّرة بلا طيار، سرعان ما تحلّ مكانها بدائل لها بصوتها المزعج الذي يخترق سكون ليل الجنوب، وبعدستها التي تسجّل حياتنا بتفاصيلها بلا أدنى احترام لخصوصياتنا ولا لسيادة بلادنا.

تصوّر هذه الطائرات كلّ شيء. في الجنوب وفي البقاع وفي العاصمة وفي الشمال. في كلّ لبنان تصوّر بشكل متواصل، وتبعث إلى قاعدتها بيانات يستخدمها العدو في رصد أهداف، ودراستها، وربما قصفها، أو الإيعاز بتخريبها عبر عملاء، كما تقول التحليلات التي لم تستبعد دورها في تفجير المرفأ، ولا في تفجير مخزن السلاح في عين قانا الجنوبية. وطبعاً يُعزى إليها تزويد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ببيانات حول ما يقول إنها مخازن سلاح ل ل ح ز ب في الأماكن السكنية.

الجيش اللبناني يصدر دورياً بيانات يحصي فيها الخروقات الجوية التي يرتكبها العدو عبر طائرات مسيّرة أو طائرات حربية يقودها طيارون. كثير من هذه الخروقات لا تسجّل في البيانات، لكننا نسمعها وهي تخرق آذاننا وتثقب طبلاتها بمخرزها، وتشوّش على يومياتنا، وتنتهك خصوصياتنا. ونتأقلم يوماً بعد يوم معها كأمر واقع. كطقس يومي، وكذباب لا تنفع معه المبيدات “المنزلية”. ليس هناك من دولاب عقص يمكن إشعاله لطردها أو إسكاتها أو إسقاطها. ولا حتى  بفراشة بيضاء كما حاول أيمن يوماً في قصيدة شوقي بزيع التي غنّاها مارسيل خليفة لمحاولة التصويب على “العصافير المعادية” وعلى “الطيور السود”. تصوّب فراشتك البيضاء صوب الطائرة المسيّرة، فتُصاب. تصوّب نحو الشمس، مثل أيمن، فلا تسقط. تصوّب نحو البحر، فلا يسقط. وإذا صوّبتَ نحو الأرض، تموت.

لهذا تجد كثيراً من الجنوبيين يتعاملون مع “أم كامل” كأنها جارة مزعجة. اسمها الذي يطلقونه عليها فيه شيء من رفع الكلفة. إسقاط اسمها التقني، وإسناد اسم “بلدي” عليها، فيه شيء من تقبّلها على مضض ضيفةً ثقيلة لا يمكن التخلّص منها بسهولة. وتصير في كثير من الأحيان مادة للثرثرة، وكأنها كائن حي “حشّور” و”فسّيد” ومتلصلص.

وأحياناً، يجد بعض من يحاولون التعايش معها أنفسهم في خضمّ حوار عبثي معها. فيخاطبها بعضهم كما لو كانت كائناً حياً، بكلمات يتوجّهون بها إلى الأعلى تستجدي الله “ساكن العالي” على جبروت أم كامل التي تحاول أن تقف عائقاً بين الله وعباده. بعضهم يخاطبها بلغة الإشارة. يرسل لها بالأصابع إهاناتٍ تليقُ بانتهاكها حرمات المنازل. وآخرون حينما ينظرون للسماء يبتسمون لكي تطلع صورتهم حلوة.

وتحاك سرديات وطرائف ونكات كثيرة حول “أم كامل”، ربما أكثرها طرافة تعود لإحدى السيدات المتقدّمات في السنّ، والتي وصف لها الطبيب الجلوس لفترات طويلة في الشمس مع كشف بشرتها لمساعدة الجسم على امتصاص الفيتامين دال “D”. فصعدت إلى سطح منزلها لتستفيد من أشعة الشمس كما نصحها الطبيب. لتنتبه وهي جالسة فوق السطوح وقد كشفت عن يديها ورجليها، أنّ الطائرة المسيّرة تصوّر في الأعلى، وأنّ “مقزوعة الرقبة الست أم كامل” لما رأت هذا “الحدث الجلل” استدعت “رفقاتها طائرات التجسس ليجوا يتفرّجوا ويصوّروني”. وتقول السيدة بطريقتها المحبّبة والساخرة: “سيقاني المترهّلة والمصابة بالفاريز قد أربكت سلاح الجوّ الإسرائيلي”!.

رامي الامين – أساس ميديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!