143 شكوى تحرش جنسي وثقتها قوى الامن خلال شهري تموز واب الماضيين
صدى وادي التيم – أمن وقضاء
143 شكوى تحرش جنسي وثّقتها شعبة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي عن شهرَي تموز وآب الماضيين. وهي زادت عمّا كانت عليه في الفترة نفسها العام الماضي بنسبة 104.25%. رغم هذه الأرقام العالية، لا يزال لجوء الضحايا إلى القضاء خجولاً، أو حتى يكاد لا يُذكر، لعدم وجود قوانين تجرّم التحرش الجنسي. فإلى الآن، هناك أربعة مشاريع قوانين معلنة لم يُقرّ أي منها بعد، ولا تزال جرائم التحرش الجنسي «تُدرج» في خانة بنود أخرى في المواد القانونية كالتهديد والابتزاز وتشويه السمعة
في السابعة عشر من عمرها، تعرفت «سلوى»، عبر موقع فايسبوك، إلى «ندى». كانت معرفة عن طريق الصدفة، أو هكذا خُيّل للشابة الضحية. في البداية، كانت الأحاديث بينهما عادية، وبعدما توطدت العلاقة بين الطرفين، باتت «سلوى» تلجأ إلى «ندى» لـ«الفضفضة» حتى أخبرتها بتفاصيل حياتها. لا تعرف كيف استحالت تلك العلاقة مَرَضية، إذ صارت «ندى» بالنسبة إليها كل شيء، حتى ولو افتراضياً… إلى أن اعترفت «ندى» لصديقتها بأنها رجل صارحها بحبه لها. سامحت «سلوى» «الصديقة» المفترضة، واستمرت العلاقة، لتبدأ بعدها رحلة «الاستدراج» بطلب صورة لها من دون حجاب، إلى أن وصلت في النهاية إلى صورة شبه عارية ظلت الفتاة أسيرتها أكثر من عامين، أُجبرت خلالهما على تنفيذ كل ما يُطلب منها تحت ضغط نشر صورتها على مواقع التواصل أو إرسالها إلى عائلتها.
«أربع سنوات من الجحيم». لم تكن ثمة عبارة أكثر دقة من تلك لتوصّف الفتاة السنوات التي تخللتها ثلاث محاولات انتحار فاشلة، بعدما أصبحت حياتها معلّقة بصورة – فضيحة جعلتها تنفذ كل ما كان يطلبه المتحرّش منها بخضوع تام.ليست قصة «سلوى» استثنائية. فتيات كثيرات وقعن ضحية التحرش الجنسي من قبل أشخاص استثمروا مواقع التواصل الاجتماعي لتلك الغايات، وبقين صامتات… خوفاً من الفضيحة. مع ذلك، ثمة قصص – في المقابل – خرج معها الضحايا عن الصمت مسجلين شكاوى أمام القضاء بحق المتحرشين. لكن هؤلاء لا يعبّرون عن الأرقام الفعلية لقضايا التحرش الجنسي. ويمكن الركون هنا إلى الأرقام التي توزعها دورياً شعبة العلاقات العامة التابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وآخرها «حصيلة» الضحايا عن شهري تموز وآب الماضيين. فخلال ستين يوماً، سُجّلت 143 شكوى تحرش جنسي (47 شكوى في تموز و96 في آب). وهي فقط الشكاوى الواردة عبر «وسائل التواصل الاجتماعي العائدة للمديرية العامة وعبر خدمة بلّغ على الموقع الإلكتروني». وقدّرت المديرية الزيادة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي بنسبة 104,25%. بعملية حسابية بسيطة، هذا يعني أنه في كل يوم، يُسجّل ما معدله شكويان ونصف شكوى، فيما الموقوفون منذ بداية العام لا يتعدّى عددهم الـ133، غالباً ما يخرجون بكفالة مالية وتوقيع تعهّد بعدم التكرار!
وهي أرقام تشهد تصاعداً يوماً بعد آخر، فما بين أواخر العام الجاري واليوم، «تطوّرت» الأرقام من 43 شكوى وردت إلى المديرية من 20 كانون الأول الماضي حتى شباط الماضي، إلى 122 شكوى من 21 شباط إلى 21 نيسان الماضي إلى 143 اليوم. وتعزو مصادر المديرية هذه الزيادة إلى الإقفال الذي رافق انتشار فيروس كورونا في البلاد، ما جعل باب مواقع التواصل الاجتماعي مشرّعاً أمام الكثيرين.
مصادر المديرية تشير إلى أن «نسبة النساء الضحايا تقدّر بنحو 60% وتصل في بعض الأحيان إلى 80%»، وأن الشكاوى «ليست حصرية بفتيات وعازبات، إذ أن اللافت وجود شكاوى لمتزوجات وحتى متقدمات في السن». أما مسرح تلك الأحداث، فكان مواقع التواصل الاجتماعي من «فايسبوك» إلى «تويتر» و«تيك توك» الذي انضم أخيراً إلى اللائحة. والقاسم المشترك بين معظم الشكاوى «الابتزاز الجنسي من خلال صورة فاضحة أو فيديو كول أو تركيب صورة الفتاة على جسد إباحي».
تلك هي الصورة التي نقلتها الأرقام. أما خارج إطار الأرقام، فضحايا الابتزاز الجنسي «أكثر من ذلك بكثير»، تقول ناي الراعي، إحدى مؤسّسات موقع «متعقّب التحرش». تؤكد الراعي أن ما يحدث في الواقع «يفوق التصور»، وما تحمله الأرقام «أقل من ربع ربع ربع الحالات التي تجري». وهو ما تؤكده آخر الأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، والتي تشير إلى أن امرأة من كل ثلاث نساء تعرضت لتحرش جنسي مرة واحدة على الأقل في حياتها. وهو ما تؤكده المحامية في منظمة «كفى عنف واستغلال» ليلى عواضة، مشيرة إلى أن الشكوى «بالحكي» هي جلّ ما تفعله الضحية، أما الشكوى الجزائية فـ«من الصعب أن تجد من تقرر المواجهة بتلك الطريقة». وما تشكو منه الضحية، بحسب الراعي، أنواع كثيرة من التحرش تبدأ بكلمة أو إيماءة أو حركة وتصل «إلى تعقّب الضحية أو التحرش بها في النقل العام أو سيارة الأجرة أو الاستمناء أمام الفتاة أو تركيب صور لها والتهديد بفضحها».
رغم كل ذلك، لا تعريف قانونياً واضحاً بعد للتحرش الجنسي. وبالتالي هناك حيرة قضائية في التعامل مع مثل هذه القضايا. فرغم أن التحرش يعدّ جريمة بحسب الاتفاقيات الدولية، إلا أنه في القوانين اللبنانية لم يرقَ إلى ذلك المستوى، ولا تزال قضاياه «عابرة» يخرج معها المتحرش بكفالة. ورغم الأعداد التي تسجل يومياً والشكاوى التي يسجلها ضحايا التحرش، إلا أنه «لم يصدر حكم واحد يدين شخصاً لأنه تحرش جنسياً بشخص آخر»، تقول عواضة. أما عندما يجري توقيف شخصٍ ما بتلك التهمة، فـ«غالباً ما تدخل تلك الجريمة تحت بنود أخرى مثل الابتزاز والتهديد والتحقير والإهانة، ويجري البحث عن مواد في القانون للحكم على أساسها». ولذلك، «لا تُدرج تلك الشكوى تحت خانة التحرش الجنسي لعدم لحظه في القوانين»، وهو ما يجعل الأحكام – إن صدرت – أقلّ من حجم الجريمة التي حدثت والتي تحمل معها آثاراً نفسية واجتماعية قد تصل معها الضحية إلى الانتحار. ولا يعود ذلك إلى أن الجريمة معقّدة، بل لأن هناك «نقصاً في القوانين»، تؤكد عواضة.إلى الآن، ورغم كثرة الجرائم الجنسية، لا يزال مشروع القانون المتعلق بالتحرش الجنسي رهينة اللجان النيابية، وهو أتى خلاصة مشاريع عدة، منها مشروع قانون تقدم به وزير شؤون المرأة السابق جان أوغاسبيان، واقتراح قانون تقدم به النائب السابق غسان مخيبر، وثالث تقدمت به جمعية مدنية ورابع تقدمت به رئيسة لجنة الأم والطفل النيابية عناية عز الدين.
رغم ذلك، لا تنبئ تلك المشاريع بتغيّر ما، خصوصاً أن عقلية المشرّع لا تزال نفسها. فمشروع مخيبر (2017)، مثلاً، نال «الثقة»، ثم في الجلسة نفسها نُزعت عنه. والسبب؟ أنه إلى الآن «لا يزال التفكير دائماً كيف سنثبت الجريمة؟». وهذا سؤال مفتوح على احتمالات كثيرة قد تطول قبل أن تصل إلى تثبيت الجرم وقد لا تصل، والدليل قوانين كثيرة «مقبورة» في اللجان. وفي هذا الإطار، يعيد مخيبر سرد تفاصيل الجلسة النيابية التي طُرح فيها اقتراح القانون، مشيراً إلى أنه طرح في إحدى جلسات المجلس الاقتراح على أساس صفة العجلة، إلا أنه «في الفترات الأولى من النقاش، وجدتُ بأن الجو في المجلس كان جو تهكّم، وكان الحديث الغالب للبعض إنو شو هالقوانين يللي عم تجيبوها». ولكن، بعدها اتخذ النقاش مساراً آخر مع تأييد مداخلات عدد من النواب لهذا الاقتراح، وكاد القانون أن «يزمط». إلا أنه كان للوزير أوغاسبيان حينها تمنٍّ بأن يكون شريكاً في النقاش القانوني نظراً إلى الجهود التي كان قد بذلها في صياغة مشروع قانون حول التحرش الجنسي. عندها، طُلب إلى مخيبر وأوغاسبيان عقد خلوة لدمج المشروعين و«ارجعولنا».
هذا ما قاله يومها رئيس المجلس النيابي نبيه بري. إلا أن العودة لم تكن كما «الروحة»، إذ لم يستطِع مشروع الدمج العبور ليصبح قانوناً نافذاً. يأخذ مخيبر على تلك اللحظات تفويت الفرصة على الضحايا، ففي ذلك الوقت كان يمكن تحصيل القانون، على اعتبار أن اقتناص القوانين مرتبط بلحظاتها. يجزم مخيبر بأن «القوانين تقتنص» تبعاً لأولويات كل لحظة. ولكن، بما أن الأولويات «هلقد بتتغير»، فالخوف بألا «يقطع» اليوم قانون بهذه الأهمية في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد. اليوم، قانون كهذا يحتاج إلى جهدٍ وضغط كي يصبح الكلام عن الجريمة واقعاً «خصوصاً أنه إلى الآن لا جريمة اسمها التحرش الجنسي وبالتالي لا جرم، وأي كلام عن التحرش هو خارج القانون. وعندما تكون هناك شكوى تحرش جنسي تجري الاستعانة بالأحكام التي تقع ضمن خانة خدش الحياء العام».
لكلّ هذه الأسباب، وبسبب «المنظومة الكارهة للنساء»، على ما تقول الراعي، لا تجد جل الشكاوى طريقها إلى القضاء. فبسبب غياب قانون واضح، تُحجم الضحية عن التقدم بشكوى خصوصاً أن لا أحد يضمن لها النتيجة، إضافة إلى خوفها من الفضيحة. من هنا، انتشرت مؤخراً ظاهرة اللجوء إلى فضح المتحرشين، خصوصاً في ظل حاجة الضحية للتضامن الاجتماعي. ولكن لتلك الخطوة سلبية تتعلق بكون المتحرش يصبح في موقع الضحية «والقانون يحميه كونه يتعرّض للتشهير»!
مشروعا مخبير وأوغاسبيان: استحالة إثبات الجرم
المأخذ الأساس على مشروعَي القانون اللذين تقدم بهما غسان مخيبر وجان أوغاسبيان هو «المكان» الذي أدرج فيه تعريف التحرش الجنسي. إذ أنه في مقترح قانون مخيبر، أدرجت سياسات التحرش الجنسي على مستوى قانون العقوبات (المادة 521)، فيما يقترح مشروع أوغاسبيان إدراجها في قانون العقوبات أيضاً وقانون العمل. إيراد تلك التعريفات في صلب قانون العقوبات يعني أن المشرّعين لم يخرجوا بعد من حيادهم الذي لا يزال يقارب قضية التحرش الجنسي من باب «أخلاقي»، إذ يُنظر إلى الفعل من باب المساس بـ«الشرف والكرامة»، لا باعتباره قضية فيها طرفان: ضحية ومتحرش، لا تكافؤ بينهما ما «يستوجب آليات تقاضٍ مختلفة»، على ما تقول الباحثة منى خنيصر من معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، في معرض نقدها لمشروعَي القانون. أكثر من ذلك، اعتبرت خنيصر أن إدراج سياسات التحرش الجنسي تحت باب الأخلاق والآداب العامة من قانون العقوبات لا يعكس سوى القصور في فهم المشترعين للتحرش، فهذه المقاربة في حدّ ذاتها تتعمّد «فصل التحرش الجنسي ضد المرأة عن طبيعته المنهجية، واضعة إياه في إطار الضرر الفردي (…) والذي يحول دون فكرة التعويض ويحولها تجاه الآداب والأخلاقيات العامة التي قد تخضع لتأويلات اجتماعية مختلفة ومتبدلة». أضف إلى ذلك أن الاقتراحين لم يتضمّنا أحكاماً خاصة للتصدي للتحرش المعنوي. وإن كان قد تطرق مخيبر لذلك، إلا أنه حصر الأمر فقط بالتحرش العنصري، وهو ما يغلق الباب على جوانب كثيرة من التحرش المعنوي الذي من شأنه أن يؤثر على الضحية في مقامات مختلفة. أما الأهم من كل ذلك، فهو أن المقترحين لم يخرجا من عبء إثبات الفعل، خصوصاً أنهما أوجبا إثبات «تداعيات التحرش»، من خلال إيراد مصطلحات على شاكلة «أودى ذلك الاعتداء على كرامته». وهو ما يعني أن الجرم لا يقع إلا في حال ثبتت نتيجته، وهو أمر يستحيل إثباته في غالب الأحيان.