تجارة السلاح تزدهر في لبنان

صدى وادي التيم – أمن وقضاء

يشهدُ سوق السلاح في لبنان في الآونة الأخيرة نشاطاً لافتاً بخلاف سائر القطاعات التجارية التي تسجل ركوداً او تراجعاً بعد بلوغ الأزمة الاقتصادية ذروتها، لا سيما بعد فشل الطبقة السياسية في تشكيل حكومة تكبح جماح الانهيار الاقتصادي.

والواقع أن تجارة السلاح لم تتوقف طيلة السنوات الماضية إلا أنها تخفُت وتزدهر وفقاً للتطورات السياسية والأمنية في البلاد. ومعروف أن اشتداد التأزم السياسي، الذي ينفجر في العادة خضات أو مناوشات أمنية موضعية ومحدودة، تدفع المواطن اللبناني، الذي اكتوى بنار الحروب المتقطعة، الى تأمين أمنه الذاتي في ظل شعوره بفقدان المظلة الأمنية للدولة. كما حصل بعد اشتباكات يونيو الماضي، في بعض المناطق المختلطة مذهبياً وطائفياً، مثل عين الرمانة (المسيحية) والشياح (الشيعية)، وكذلك في شارع بربور (الشيعي) والمزرعة (السنية). الى العامل الأمني والمخاوف من تجدد الحرب الأهلية، أُضيف عامل آخر أشد وطأة حرّك تجارة السلاح في لبنان، هو العامل الاقتصادي. انفجرت الأزمة الاقتصادية قبل نحو عام، ففُقد الدولار من السوق اللبنانية، وحجزت المصارف أموال المودعين وحصرت سحبها بالعملة الوطنية، وتوالى انهيار القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية حتى بلغت الأزمة ذروتها مع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي.

وإزاء غياب أي افق سياسي يوفر فتح باب المساعدات الدولية للبنان اتخذ المصرف المركزي قراره بوقف دعم السلع الاساسية من ادوية وغذاء ومحروقات ما يهدد برفع مستوى الفقر والبطالة ويحيي المخاوف من انفجار اجتماعي بدأت ملامحه تظهر في تزايد اعمال السلب والسرقة. كل ذلك شرع الباب أمام اللبنانيين للبحث عن وسائل تحمي حياتهم واملاكهم ومدخراتهم في ظل الإجماع على ان الأيام المقبلة ستكون صعبة ومؤلمة جداً. ومعروف ان عددا اللبنانيين تمكن من سحب جزء كبير من مدخراتهم من المصارف الى المنازل، الذي تختلف تقديراته بين 3 الى 5 مليارات دولار. احد العاملين في تجارة السلاح منذ عقود، الذي استطاعت القبس التواصل معه أشار الى ان عمله لم يتوقف خلال هذه السنوات، معدداً محطات أساسية ازدهرت فيها تجارة السلاح في لبنان: عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 2005، وبعيد اندلاع الثورة السورية، وأخيرا بعد انتفاضة 17 تشرين 2019، مع بدء حركة سحب الودائع المالية الى المنازل. وقد يعتقد المرء نظرا للأزمة الاقتصادية التي يغرق فيها لبنان وانسداد كل أبواب المساعدات ومعاناة عدد كبير من اللبنانيين من تأمين السلع الأساسية الضرورية، ان شراء السلاح يقتصر على الأغنياء او المقتدرين ماديا، الا ان «التاجر» يدحض هذه النظرية «الفقير يشتري والغني يشتري» وكل حسب قدرته. فمن يريد حماية نفسه يشتري المسدس والكلاشنكوف.

اما هواة السلاح فيشترون القناصات والقاذفات الصاروخية وأحدث مجموعة من المسدسات من مختلف الأعيرة النارية. ويروي تاجر السلاح ان عددا من العائلات الميسورة غادرت منازلها بعد انتفاضة 17 تشرين 2019 وما اعقبها من صدامات بين القوى الأمنية والمتظاهرين، وكذلك ابان فترة اغلاق البلاد اثر تفشي جائحة كورونا، وتوجهت الى مناطق فقرا وعيون السيمان للإقامة حاملة معها مدخراتها، فنشطت تجارته وباع كمية من القطع الباهظة. واضاف تاجر السلاح لـ القبس ان الميسورين كانوا سابقا يشترون قطعة سلاح للاقتناء او كهواية للتدريب في نوادي الرماية، ولكن بعد 17 تشرين اصبحوا يقتنون السلاح لحماية امنهم الذاتي. المفارقة ان حركة البيع لا تقتصر على الأغنياء، فهناك أيضا حركة نشطة في مناطق فقيرة، في شمالي لبنان، حيث يجتمع العامل الأمني مع الاقتصادي في عكار مثلا، وفق التاجر الذي يقتصر نشاطه على بقعة جغرافية معينة. عمليات بيع السلاح تحصل في الغالب مع افراد وليس مع جماعات طائفية أو حزبية. لكن احد العاملين في هذا القطاع اخبرنا بحديث مقتضب ان بعض المتمولين المناصرين للأحزاب قاموا خلال الأشهر الماضية بشراء كمية من السلاح لتوزيعها على مناصرين فقراء غير قادرين على اقتناء قطعة حربية. وبرأيه أن هذه العمليات قد تتم بتوجيه من قيادة الحزب او بصورة طوعية. ولكن طلبات الافراد هي الغالبة وسببها الازمة الاقتصادية والخوف من المجهول المقبل.

السلاح يباع مثل الدولار في السوق السوداء. ولدى سؤاله عن مصادر الاسلحة الواردة الى السوق السوداء اللبنانية يقول التاجر لـ القبس ان 95 بالمئة من الأسلحة تأتي من سوريا، التي تأتيها بدورها من العراق ومن تركيا. قليل منها يمر عبر طرق شرعية وأكثرها بطرق غير شرعية. ويلفت إلى ان بعض القطع يتم تهريبها عبر المطار، وهي اسلحة اغلى ثمنا وأحدث من تلك التي تأتي عبر سوريا، ولكنها محصورة بفئة حزبية معينة تقوم ببيعها حصرا الى تجار من بيئتها. ويقول «المسدس في أوروبا سعره 400 دولار يباع في لبنان بـ3000 دولار».

وكما يحدث عادة مع كل المساعدات التي تصل الى لبنان، وتذهب بسحر ساحر الى غير مستحقيها، من أكياس الشاي المرسلة الى متضرري انفجار بيروت والتي ذهبت الى لواء الحرس الجمهوري وعناصره وكما اختفى مبلغ 90 مليون دولار كان مخصصاً لتمويل عملية حصول كل طالب لبناني على جهاز «تابليت» في اطار عملية التعليم عن بعد نتيجة جائحة كورونا، يتردد في هذا المجال ان عددا من قطع الاسلحة الموجودة في السوق السوداء هي في الأساس عائدة للدولة اللبنانية التي استوردتها لحساب بعض الاجهزة الرسمية، لكنها بيعت الى تجار السلاح بعد اجراء محو وتعديل في أرقامها. غير ان خبيرا في هذا المجال افادنا بان ضباطا في الجيش اللبناني يحق لهم شراء بعض القطع الحربية سنويا، وقد يلجأون الى بيعها للكسب المادي ولكنها ليست سلاحا للدولة.

يتم تسعير السلاح وفق سعر الدولار. ترتفع هذه الاسعار تبعا لارتفاع سعر صرف الدولار. فرشاش كلاشن كان في بداية الثورة السورية بـ 300 دولار اليوم يصل الى الف. والدفع يتم نقدا، اذ يرفض تجار السلاح قبض المبلغ عبر شيكات مصرفية، لجأ اليها كثيرون كسبيل لتهريب أموالهم، ولقناعة ان السلاح مثل الأرض ومثل الذهب لا يخسر من سعره ويمكن بيعه في أي وقت. نسأل تاجر السلاح عن اكثر الأصناف طلبا اليوم، فيقول «نبيع كل شيء» بحسب إمكانات المشتري. الأكثر طلبا حاليا هو الكلاشن اخمص حديد لحداثة صنعه ومحدودية سعره من 600 الى 1000 دولار.

وهذه الحركة النشطة في السوق هذه الايام لا تعني ابدا اننا مقبلون على حرب أهلية، وفق مصدر أمني. لأن قرار الحرب لا يرتبط بقطعة سلاح فردية موجودة تقريبا في كل بيت منذ الحرب الاهلية، بل بقرار خارجي يحتاج إلى أطراف داخلية تملك أدوات هذه الحرب، وفي لبنان محصور هذا الامر بجهة واحدة. ولو اننا شهدنا في الأيام السابقة بعض النزاعات المحلية، إلا أن ازدهار سوق السلاح عائد بالدرجة الأولى الى تعاظم قلق اللبنانيين على حياتهم واموالهم نتيجة الازمة الاقتصادية التي زادت اعمال السلب والسرقة. قبل أسبوع، قال الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة لـ القبس ان انحدار لبنان الى ازمة غير مسبوقة على المستوى الاقتصادي سيولد فوضى امنية واجتماعية ستلزم اللبنانيين بعدم مغادرة منازلهم مساء خوفا من العصابات وقطاع الطرق. وبناء على المعطيات فإن هذا السيناريو ليس ببعيد اذا استمر الجمود السياسي في البلاد.

“القبس”:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!