صحافة الترند.. منابر التافهين

صدى وادي التيم-متفرقات/

بقلوبٍ خاضعة لثقافة الأمر الواقع، نودّع اليومَ الصحافة المطبوعة، إلى مثواها الأخير؛ تلك الصحافة التي عشقنا وحلمنا أن نضع أسماءنا في زواياها وأعمدتها، وحلمنا أن تُنشر أشعارنا أو آراءنا فيها، هي اليوم في ذمة الماضي؛ لقد تأبطت أحلامنا وذهبت إلى غير رجوع.

لكننا في ذات الوقت، نستقبل صحافة الموبايل، أو صحافة السوشل ميديا، أو ربما صحافة “الترند”، كما أرغب أن أسميها، لأسباب لن أتورّع في تعريتها أمام الملأ من أبطال الماضي الجميل، على أن العريَ أصبح موضةً اليوم، وفاتح شهية لصحافة الترند، اللاهثة خلف عدّاد المشاهدات !

في دراستنا الجامعية بكلية الإعلام، تعلمنا أسس الصحافة الإلكترونية، ومبادئها، لكن على أساس أن الموقع الإلكتروني هو شيخ الصحافة الجديدة وكهلها وفتاها، وتعلمنا أن الشاعر والكاتب وصاحب الرأي، والفنان والرسام والملحن ورائد الأعمال والمصدر المسؤول، سيظلون أبطال الصحافة الذين يكرّون في ساحات المواقع الإلكترونية، يُعملون أسياف الفن والأدب والثقافة والإبداع في أعناق ” الجهل والتخلف والتبعية ” على حد علمنا؛ وتذكروا هذا الشعار جيداً !

لكن بوووممم، قصف جبهات، ركز وفكر جيداً، فصحافة الترند لاتنشر إلا الجهل والتخلف والتبعية، فعبارة “بوووممم قصف جبهات” وصلت للملايين من أفراد المجتمع، وقائلها لاشيخ ساحات العلم ولاحتى طفلها الرضيع، بل هو شخص ربما بالكاد يستطيع القراءة والكتابة، ولا معجزة لديه ولا هبة ولا موهبة؛ فكل ما بالأمر أنه ” ترند ” لذلك هو بطل من أبطال صحافة الترند.. فابلع أيها الجيل الجديد !
أما الفن، ففرسانه المشاهير حمو بيكا مجدي شطه وشاكوش، ومن أغانيهم مثلاً (أمك صحبتي، وأختك بترقص على مطوتي)، وتخيلوا حجم الفظاعة والانحطاط الأخلاقي في هذه الكلمات التي يتغنى بها الملايين من أبناء الجيل الممسوخ فكرياً، وهذا يدخل في إطار الغرس الثقافي الذي سنحصد نتائجه بكثير من جرائم الاغتصاب وزنا المحارم والقتل والبربرية، فابلع أيها الجيل الجديد.
أما الكوميديا، فرافعو راياتها الحنش وعبسي وأبو الرب وخضر العادي، فابلع أيها الجيل الجديد، عااادي.
أما الشعر والأدب فخنساءه الشاعرة رملاء نكد ومن أشعارها مثلاً (لبسوني فوشيا.. وأخدوني على كوريا.. عطيتن حكم مابتخلص.. وأشعار من الأطلس.. خدوا الحكم مني.. الشب الأسمر جنني)، فتأملوا المستوى الفكري الغارق في الوحل الذي سيتلقاه الجيل القادم والأجيال التي تليه، فابلع أيها الجيل الجديد.
أما الدين الجديد، فلن أذكر أسماء أئمته التكتوكيين، لأسباب تتعلق “بقدسيتهم” لدى متابعيهم، فطوبى لهم الدين التكتوكي الجديد.
أما البثوث المباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فصريخ وجعير وتسول رقمي لكن على الطريقة المخملية، ناهيك عن بثوث الحديث الجنسي، والذي منه ما يكون على أساس أنه كوميديا، ومنه ما يكون على أساس أنه تربية جنسية، والضحايا هم الأولاد المراهقون، أو (جيل الزد).. وماذا سأعُد لأعُد !
كل هؤلاء المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي هم أبطال صحافة الترند، أما الأدباء والمثقفون والمفكرون ورواد العلوم والفنون وكتّاب الرأي، فإنهم مهمشون ومغيبون بالكامل، يعملون كسائقي تكاسي وتكاتك لتأمين قوت يومهم.
تخيل أن جاهلاً أمياً مُشتهَراً على (تيك توك) يسافر في طيارة خاصة حول العالم، وتستضيفه قنوات الإعلام وتنشر جديدَ تفاهته صحافة الترند، بينما أديب ومفكر سائقٌ على (توك توك)، بالكاد يستطيع شراء طعام يسد رمقه، ويشرب مما تشرب الخيل تارةً.. وطوراً تعاف الخيل ما بات يشربُ، وهنا أقول من جديد: ابلع أيها الجيل الجديد، فهذا زمان للجهل به سطوة وشهرة وغرور، وللتخلف والانحطاط داعمون وجمهور، وللتبعية والتقليد الأعمى حضور منقطع النظير.

انتشار ظاهرة اشتهار التافهين لا يبشر الأجيال المقبلة إلا بالفراغ المعرفي والضعف الإبداعي، والطامة الكبرى دفع مروجي التفاهة هؤلاء إلى واجهة العمل الاجتماعي والإعلامي، والاحتفاء بهم على المنابر الإعلامية، وتلك جريمة بحق الأجيال الناشئة والشباب في سن المراهقة، فالأجيال القادمة ستتلقى تجربة التفاهة لهؤلاء – بسبب اشتهارها – وستعتنقها ظنناً منهم بنجاحها، بينما لن تتلقف تلك الأجيال أياً من التجارب العلمية أو الثقافية أو الإبداعية الأدبية والفنية، نظراً لتغييب هؤلاء وعدم اشتهارهم، وعدم الاهتمام بهم إعلامياً، حيث تلهث قنوات الإعلام وراء عداد المشاهدات لاوراء القيمة النوعية للضيف، وبالمحصلة لن يكون من مشاهير المستقبل شاعر فذ كبدر شاكر السياب، أو روائي ملهم كالماغوط، أو رسام مبدع كشاكر حسن السعيد، أو موسيقي كبليغ حمدي، فكل المبدعين في هذه المجالات اليوم مهمشون ومدفونون في صعوبات الحياة، لا تعلم بهم إلا أمهاتهم، بينما المشاهير المحتفى بهم إعلامياً، هم هؤلاء التافهين المسطحين الفارغين من كل علم مقنع أو فنّ ممتع، وهؤلاء هم الذين ستصل أسماءهم القزمة المضخمة وإفرازاتهم السطحية والتافهة إلى المستقبل، الأمر الذي يضع الجيل الحالي والأجيال التي تليه على حافة التسطيح العقلي والانحدار الأخلاقي، والفراغ الفكري؛ وختاماً أستذكر شعر أحمد شوقي:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتماً وعويلا

المصدر: فداء الحلبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى