فيروسات كتبت التاريخ..بمذابح وثورات وامبراطوريات!

العنوان مستوحى من مقالة في “النيويوركر” لإليزابيت كولبرت بعنوان “الأوبئة والتاريخ”، فيها شواهد غنية من الماضي على دور الفيروسات الجيوسياسي، وإعادة تشكيل العالم وتوزيع النفوذ بين دوله وأممه.

هناك إجماع، على أن ماقبل كورونا ليس كما بعده، وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قال كورونا سيغير النظام العالمي  إلى الأبد، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جزم بأن الأيام القادمة لن تكون كالماضية، لكن كيف سيكون هذا التغيير، لا أحد يعرف، لا من جهة الحجم ولا من حيث الاتجاهات.

وحدهم السذج والسطحيون يعرفون، وغيّروا العالم وفقا لشهيتهم السياسية والفكرية والاقتصادية، مع أن كورونا قد يكون لم يبدأ بعد، وما شهدناه ليس سوى الغارات الأولى، وما زال عنده قابلية للتنقل من منطقة إلى أخرى ومن قارة إلى ثانية وثالثة، ولم يتوافر لغاية تاريخ النشر، علاج لإبطائه أو لقاح لطرده، وهناك إمكانية أن يستمر سنين طويلة، هو ليس مثل سارس وميرس وإيبولا وانفلونزا الطيور والخنازير، فهذه كانت مشاريع أوبئة، لكن دُحرت قبل نضوجها، بينما هو وباء بالمعنى الرسمي والعلمي للكلمة.

كورونا مثل الأوبئة التي مرت في التاريخ، تصيب الإنسان وتنهك صحته وتفتك به، ولا تنحو منه الكيانات والدول، فلا لقاحات لها منه أيضا. وإذا كان بالإمكان تعيين العوارض على الأفراد بالفحوص والمعاينة خلال برهة وجيزة، غير أن  أعراضه على الكيانات والدول تحتاج إلى تعمق وتفكر، ولا تظهر دفعة واحدة، ومنها ما يتفاعل على طول سنين وعقود.

العقول البسيطة تنظر إلى كورونا على أنه إضافة مستجدة على الصراعات الدولية، يمكن لطرف منها استثماره لمصلحته، منها تفكك الاتحاد الأوروبي وإخراجه من المنافسة على قيادة العالم، وأن يهتز موقع الولايات المتحدة الأميركية الريادي نفوذا واقتصادا في العالم بعدد الإصابات والوفيات، وأن يتعاظم دور الصين لفعالية نموذجها الاستبدادي والقمعي في ضبط الشعب وإجباره على التقيد بإجراءات الحماية. قد يحدث هذا وما هو أكثروقد لا، لكن من يستطيع أن يحسم ويجزم بأن تداعيات هذا الفيروس ستنتهي هناك أو سيكتفي بذلك؟ طبعا الجواب هو لا، لأن كل شيء وارد.

فاجأ كورونا العالم، فلا أحد كان يتصور قدوم مثل هذا الزائر المرعب، وهذه ليست مفاجأته الوحيدة، فهو على ديدن الأوبئة في التاريخ، لقد عصف باليقين الإنساني وبعثره نتفا نتفا. وليس ترداد عبارة “الحياة باتت هشة” على كل ألسنة أمم الأرض أمرا يمكن المرور عليه مرور الكرام، هذه عبارة تهز كل النظم ليبرالية أو ديكتاتورية، وتدك كل الدول شرقية أو غربية، كان العالم أمام هذا الفيروس، كلوح زجاج هوى من علٍ، وكسره بصعب شعبه.

لم يكن يدري  أباطرة بيزنطة وملوك فارس أن طاعون جوستينيان الذي ضرب أمبرطوريتهما بدءا من العام 540م وتكرر في أكثر من موسم حتى العام 750م وهلك فيه ملايين البشر من رعاياهما، يخفي مفاجأة غير منتظرة، وهو أنه سيفتح الطريق أمام المسلمين القادمين من صحراء شبه الجزيرة العربية لبناء امبراطورية على حساب أراضيهما، لقد انعطف ذلك الطاعون حينذاك بالعالم من وجهة إلى أخرى، وبطريقة سريعة وخاطفة.

وعندما انتشر الجدري في القرن الخامس عشر في أوروبا، لم يكن في خلد الغزاة الاسبان لأراضي السكان الأصليين في أميركا (الأرض الجديدة)، أن يتحول فيروس جدري يحمله شخص إسباني إلى سلاح مدمر بيدهم  يقضي على هؤلاء السكان ويبيد جماعات كثيرة منهم ويهدم حضاراتهم، فسقطت عاصمة الأنكا وانهارت امبراطورية الأزتيك بالفيروس قبل احتلالها من جنود الغزاة.

كذلك لم يعلم سكان إفريقيا، أن الأوبئة التي نقلها الإسبان إلى أوروبا من هنود أميركا (حصبة وتوفوئيد والشاهوق) ستكون كارثة عليهم، فالخسائر المليونية بفعل هذه الفيروسات إضافة إلى الجدري، أحدثت نقصا هائلا في العمالة الإسبانية، فكان انتعاش تجارة الرقيق، وانفتحت صفحات طافحة بالمآسي والآلام استمرت قرونا وما زالت ليومنا هذا من هذه التجارة البغيضة.

لقد أحدث الطاعون تبدلا في مفهوم السلطة في أوروبا بإضافة بعد جديد لها وهو حماية الصحة العامة، وعندما انتشرت الكوليرا في كلكوتا الهندية ووصلت إلى روسيا حيث استمرت فيها على موجات من عشرينيات القرن التاسع عشر حتى أواخره، رافقها أعمال وفوضى بعدما اضطرت السلطات إلى قتل المصابين لتخفيف الضغط على جهازها الصحي، فكان الرد بقتل الأطباء والشغب ونهب المتاجر، فكان ذلك تمهيد للثورة الشيوعية في العام 1917.

انتشار الكوليرا أحدث انزياحا للسلطة في إيطاليا، فانتقلت من الجنوب إلى الشمال، باعتبار نابولي كانت بؤرة الفيروس، ودفع اليهود ثمنا باهظا لانتشار هذا الوباء في ألمانيا، فتعرضوا للقتل وجرى إحراقهم أحياء وتم تهجير أعداد كبيرة منهم إلى روسيا وبولندا، بعد اتهامهم بجلب الوباء ونشره، ولم يسقط هذا الافتراء عليهم إلا بعد تدخل السلطات الدينية.

ما زال من المبكر، تعيين التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكورونا الصيني، ليس لأنه فقط، ما زال قادرا على النغلغل والتنقل بين المجتمعات والدول، إنما لأن مضاعفاته لا يمكن حصرها بالوقت الحالي فهي في طور التنامي والاتساع، وكذلك مفتوحة على احتمالات واسعة، وتحمل أيضا في طياتها الكثير من المفاجآت، أضف أن عملية استرداد اليقين مفتوحة على خيارات صعبة لدى القوى الكبرى، ويدفعها إليها هذا الفيروس، منها الثورات والحروب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى