فضيحة قضائية… “كارتيل الكبتاغون” حرّ

“ليبانون ديبايت” عبدالله قمح

تعود القضية إلى عام 2016، تاريخ إحتلال التنظيمات الإرهابية و”داعش” منها الجرود اللبنانية في عرسال. المسرح عرسال وجرودها طبعًا على طول الشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وسوريا والذي كان خلال تلك الحقبة بمثابة “خطٍّ نارٍّ” يأكل من يقترب منه.

في الحقيقةِ، شكَّلَ تنظيم داعش خلال تلك المرحلة حالةً فريدة من نوعها إن لجهةِ ما هو متَّصلٌ بكيفيّةِ نشوئهِ وظهورهِ أو الاسلوب الذي اتبعه على صعيدِ هيكلةِ “فوضى التوحشِ” المعتَمَدة لديه ما جعل منه إستثنائًا بين أقرانهِ من فئاتِ الجهاديين، ودفع بجيشٍ من المهتمين إلى رصدهِ لمحاولةِ فهم الآلية الادارية التي يعمل على اساسها وما هي عناصرُ القوة التي تدفع بأشخاصٍ في ريعان الشباب لانتهاجِ أسلوبٍ عنيفٍ في التعبير عن مُعتَقَدٍ، يتحوَّلون على اثرها الى قنابلٍ موقوتة!
المُعلن من أدبيات تنظيم “الدولة” يَكشف عن إرتباطاتٍ عقائديّةٍ دينيّةٍ تؤدّي دورًا في تحريكِ عناصره، بيد أنّ هذه العقيدة ليست هي المحرِّكُ الاساس بل أن الأخطر منها يأتي من الخفاءِ بمثابةِ سببٍ إضافيٍّ زادَ من القدرة على التحامِ العناصر بأرتالِ الدباباتِ أو قيادة سياراتٍ مفخخةٍ، أي عبارة عن “معجونٍ سريٍّ” أدّى وظيفته في تنشيطِ قدراتِ هؤلاء أُطلِقَ عليه “الكبتاغون”.
تلك الحبوب التي لا يتجاوز حجمها حجم حبة العدس، توصَّلَ خبراءٌ إلى إعتبارها أحد أخطر أسلحة التنظيم الإرهابي لا بل تفوق بخطرها الاسلحة التقليدية لأنها كفيلة باستيلاد جيلٍ من الانتحاريين القادرين على الالتحام من دون أي تفكيرٍ مسبقٍ، حتى أصبحَ “المنتََج” يحمل إسم التنظيم بوصفهِ “مخدرات داعش”.
على هذا المنوال، وحيث أنّ البيئة الجغرافية كانت شديدة الالتحام خلال تلك الحقبة مع “داعش”، وجدَ البعض في موقعِ البلاد ملاذًا للبدءِ بنقشِ تجارةٍ مع التنظيم الارهابي. ولقد كانت مع الاسف ارضية مناسبة بحكم وجودِ العشراتِ من تجّار المخدرات المنتشرين في المنطقة الباحثين عن فرصةٍ… ومثلهم تأثر كثيرون ليس بوجودِ التنظيم بقدرِ تأثرهم بتأمين تجارة تدرّ أموالاً طائلة.
في ما يتقدَّم، يستعرض “ليبانون ديبايت” مضمون 75 صفحة من تحقيقاتٍ تولَّى إدارتها قضاء التحقيق العسكري بين أعوام 2016 -2017 – 2018 تطاول تورّط ضابطٍ برتبةِ مقدَّم في قوى الأمن الداخلي يدعى بشارة نجيم، شغل سابقًا منصب رئيس مكتب مخدرات البقاع ولاحقًا آمر فصيلة درك عرسال، وإلى جانبه 16 شخصًا من المشتبهِ بهم في الضلوعِ بأعمال تصنيع وتصدير حبوب الكبتاغون لصالح تنظيم داعش، في قضية يمكن تسميتها بـ”كارتيل داعش في لبنان”.
القصة بدأت تتكشف فصولها في ربيع عام 2015 حين شاء القدر أن يتم توقيف عريف في قوى الأمن الداخلي بالصدفة يدعى قزحيا محمد علي حليل بينما كان يحاول نقل كميات من مادة الكوكايين بإستخدام سيارته وذلك على حاجز ترشيش.
جرت عملية سوق العريف مع من كان معه في السيارة إلى مكتب مكافحة المخدرات المركزي يوم 8 نيسان 2015، وقد اعترف أمام المحققين أنه دأب على نقل كميات من الكوكايين إلى إحدى مناطق شرق بيروت بإستخدام السيارة، معترفًا بأنّه ينقلها لصالح المدعو عباس زعيتر الذي يطبخها بشراكةِ المدعو حسن الخضر.
خلال التوسع في التحقيق معه، طلب حليل، بحسب نصِّ الاعترافات المدوَّنة في محضر تحقيق قوى الأمن الداخلي رقم 1305/302 تاريخ 8/4/2015، اللقاء برئيس مكتب المخدرات المركزي العميد غسان شمس الدين، وأنّ لديه معلومات عن ضلوعِ رئيسه المقدم نجيم في إنتاج وبيع حبوب الكبتاغون إلى “داعش”.
يتضمَّن المحضر إعترافات تلاها الموقوف حليل على مسمع العميد شمس الدين مع سردٍ واسعٍ للمعلوماتِ حول ضلوع نجيم في عمليّةِ الاتجار بالحبوب، ونظرًا للمفاجأة التي شكَّلَتها الاعترافات وخطورتها، خابر العميد شمس الدين النائب العام الاستئنافي الذي وضعه بصورة ما سمعه شفهيًا، فطلب النائب فتح محضر خطي لتدوين الاعترافات سُجِّلَ تحت الرقم 1335/302 تاريخ 10/4/2015.
يذكر العريف حليل في الاعترافات، أنّه أقدمَ على تهريب مادة الكوكايين لأنه وجد “رئيسه” يمارس الأمر نفسه. وقد ذكرَ خلال الاعترافات، أنّه كان السائق الخاص للمقدَّم وقد عمد خلال السنتَيْن الأخيرتَيْن إلى نقل أكثر من 1000 كيس يحتوي كل منهم على 200 حبة كبتاغون إلى منطقةِ مشاريع القاع على أساسِ أنها “بنادول” وذلك بطلبٍ من المقدَّم نجيم كما يذكر.
ويكشف، أنه كان يعطيها إلى أشخاص سوريين، وينقلها برفقة آخرين بإستخدام سياراتٍ عسكريّةٍ تابعة لقوى الأمن الداخلي مع شركاءٍ من الفصيلة تحت إشراف المقدم نجيم، وكان يأتي بأكياسٍ أخرى لزوم عملية التصنيع إلى المبنى القديم لفصيلة عرسال وهو يمارس هذا الفعل وكرَّرَه مرات عدة.
وأوردَ في إعترافاته أسماء لاشخاص آخرين بصفتهم متورطين ووظيفة كل منهم بالوقائع والتواريخ وهم:
1- علي أحمد فليطي الملقب بـ “علي زهوة”
2- خالد أحمد فليطي الملقب بـ “خالد زهوة”
3- حسن حسين زعيتر الملقب بـ “حسن البس”
4- مصطفى عبد اللطيف آمون والدته زليفة
5- عبد اللطيف محمد امون
6- محمد شحادة رشق الملقب بـ “محمد ابو العباس” سوري الجنسية
7- المعاون أول في قوى الأمن الداخلي الياس مرشد الساحلي
8- الرقيب أول في قوى الأمن الداخلي باسيل سمير الحسيني
9- الرقيب في قوى الأمن الداخلي خالد محمد زهير حليل
10- العريف في قوى الأمن الداخلي قزحيا محمد علي حليل
11- حسن عساف الخضر
12- عباس حيدر المصري الملقب بـ “عباس أبو عين”
13- مهدي حسين المصري
14- محمد أحمد اسماعيل الملقب بـ “محمد خبصة”
15- أحمد علي توفيق رباح معروفٌ بإسم “أبو علي رباح”
هؤلاء، خضعوا جميعًا للتحقيقاتِ بل وإنّ إعترافات بعضهم كانت السبب وراء استدعاءِ آخرين والاشخاص المُشار اليهم، تُجمِع الاعترافات المثبَّتة على أنّ غالبيتهم من المتورطين في صناعةِ وتجارةِ المخدرات، كالأخوين المصري والسوري محمد رشق.
هذا الأخير، تبيَّنَ خلال التحقيقات أنّ عليه استنابة قضائية بجرم “كبتاغون”، وقد سجل تحليل البيانات التقنية لرقم هاتفه وجود أكثر من 450 إتصال بينه وبين المقدَّم نجيم على رقمهِ مُسجَّلَة للعام 2010 فقط وأخرى تتجاوز الـ 300 خلال 2013 و2015. وفي اعترافاتهِ، إدعى رشق، أنّ الأسباب تعود إلى معرفةٍ قديمةٍ جمعتهما، وحادثة طرأت على عائلة رشق بعد اختطافِ أفرادٍ من عرسال لابنائهِ، فكان يتواصل مع المقدَّم نجيم لهذا الغرض.
وبينما ورد في إعترافات العريف حليل حول علاقة “شغل” تجمع رشق بالمقدَّم نجيم لها صلة بعمل الاول في مجال الكبتاغون، أنكرَ الأوّل كل ذلك ومن ضمنها ما قدمه من إعترافات حول العلاقة التي تجمعه بالمقدم نجيم، وقد برَّرَ ذلك بتعرّضهِ للضغطِ وانتزاع اعترافاتٍ منه بالقوة خلال خضوعهِ للتحقيقات لدى مكتب مكافحة المخدرات.
الأمر ذاته يسري على جميع الموقوفين تقريبًا في القضية، الذين وعلى الرغم من الاعترافات والتواريخ التي تناولتهم وضلوع بعضهم في أعمال مخدرات، انكروا تلك الاعترافات كلّها أو وجودِ علاقةٍ أو معرفةٍ تجمعهم سويًا، أما الذي أثار الاستغراب كمن في طريقةِ تراجع العريف حليل عن الاعترافات التي قدَّمها بحق الأشخاص المذكورين مدعيًا أمام قاضي التحقيق في البقاع، أنها انتُزِعَت منه تحت التعذيب!
اللافت، أنّ التراجع أتى بعد زيارةٍ قامت بها زوجة العريف حليل إلى المقدَّم نجيم في منزلهِ بنيّةِ التوسّطِ لزوجها. يرد هذا في إفادة زوجته زينب الواردة في محضر التحقيقات، إذ إدّعت أنها التقت نجيم، وأنّه زوَّدَها برقمِ هاتفٍ جديدٍ ينتهي برقم 77 قال أنّه يعود إليه، وذلك خلال مرحلة توقيف حليل، وأنّ الاخير كان قد بدأ التواصل مع المقدَّم من مكان توقيفه خلال الفترة التي سبقت إنكاره لما اعترف به لدى مكتب مكافحة المخدرات… فهل كان هذا التواصل سببًا في التراجع لقاء وعودٍ؟
ربما، أو أنّ المقدَّم نجيم قد تعرَّض لعمليّةِ إستهدافٍ، كما يقول في إعترافاتهِ أمام قاضي تحقيق البقاع خلال التحقيق الاستنطاقي بحيث أنّ عناصره كانوا يعمدون إلى الوشاية به زورًا لدى القيادة وبعض الأحزاب الفاعلة كما قال، إذ أنكرَ كلّ ما وردَ في إعترافاتِ حليل حول ضلوعهِ في صناعةِ الكبتاغون لمصلحةِ سوريين يُشتَبَه بإنتمائهم إلى “داعش”.
لكن الشبهة، لا تبدو أنها حكرًا على حليل، فالتحقيق يذكر، أنّ عسكريًا في قوى الأمن الداخلي وهو عريفٌ يدعى خالد يوسف صالح، كان قد أدلى بمعلوماتٍ مشابهة لدى شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، تتعلق بشبهاتٍ حول ضلوعِ نجيم في تصنيع المخدرات، دُوِّنَت تحت المحضر رقم 2915/205 تاريخ 8/10/2015.
يرد في المضمون، أنّ صالح، كان يعمل بإمرةِ المقدَّم نجيم، وقد ذكر أنه وخلال وجوده في مزرعةٍ تعود لرئيسهِ، عثر على بعضِ الثياب العازلة (اوفارول) وكمّامات وبراميل مواد تفوح منها رائحة كريهة، وشاهد آلة كبيرة مع مولّدٍ كهربائيٍّ. وعندما عَلِمَ المقدَّم بمشاهدتهِ لتلك الآلة، استدعاه الى مكتبه وقام بتوبيخهِ وعاقبه، ثم اعاده الى المزرعةِ وبدأ يطلب منه القيام بأعمالٍ مثل توصيل المياه.
ويذكر، أنّه حاولَ تقديم شكوى لدى مكتب مخدرات البقاع، فطلب منه الضابط المعني هناك ترك الموضوع وهو سيعيد التواصل معه من أجل مزيدٍ من التحقيق، فأتى في اليوم التالي إلى الموقع كي يرى أنّ كلّ المسرح قد اعيدَ ترتيبه!
إضافة إلى ما تقدَّم، زوَّدَ صالح، بحسب مضمون التحقيق، الجهة القضائية تسجيلات صوتية تظهر مقرَّبين وأنسباء للمقدَّم نجيم يتواصلون معه بهدفِ تعديل إفادته التي أدلى بها، كذلك أظهرت بيانات التحليل التقني أنّ نجيم ومن خلال أرقامٍ كثيرةٍ كان يتواصل مع المشتبهِ فيهم خلال فترةِ طلبهم الى التحقيقات، أو قبلها وقد اظهرَ التطابق الجغرافي وجود هذه الأرقام ضمن نطاقٍ واحدٍ حيث مكان المقدَّم والمدعى عليهم.
لكن ما يمكن إدراجه تحت صفة الهام ويدعو للإنتباه أنه وخلال سريان مفعول التحقيقات، أدلى العديد من المشتبه بهم بإعترافات، ذكروا في سياقها أن المقدم نجيم كان “سيء السمعة لدى أفراد السلك”، وأن كثراً كانوا يتهامسون بمعلومات حول إرتباطات ما تورط فيها المقدم، جميعها ذات صلة بقضايا مخدرات.
بناءً على ذلك كلّه، ادعت النيابة العامة العسكرية على جميع الموقوفين بجرائم منصوص عنها في المادتين 125 و126 مخدرات معطوفة على المادة 15 والمادة 219 عقوبات، والمواد 371 377 عقوبات و166 قضاء عسكري.
تلك الاعترافات المنصوص عليها ومع إنكار المشتبه فيهم مضمونها وتراجع صاحب الافادة الاولى، أي حليل، عنها، وجد فيها القضاء العسكري لزوم ما لا يلزم، مستبعدًا ما ورد في مضمون التحليل التقني لأرقام الهواتف، مستخلصًا أنّها مجرد “ترهات” وأنّ الملفَّ مبنيٌ على مشاهداتٍ وتأويلاتٍ غير واثقةٍ وشائعاتٍ وعطفٍ جرميٍّ وجميعها أدلة غير كافيةٍ، متجاهلاً بيانات أساسية وردت خلال الافادات ولم يجرِ التقديد فيها، على ما تؤكد مصادر قضائية مُتابعة.
بضوءِ ذلك، استخلصَ القضاء العسكري بمرجعيّة إحدى القاضيات التي تتمتَّع بصفةِ عضو مؤسسٍ في نادي القضاة، أنّه لم يتوفر بحق العناصر المذكورين أيّ دليل كاف للظن بهم، ليقرِّر منع المحاكمة عن الجميع وإخلاء سبيل الموقوفين لقاء كفالات مالية، باستثناء حليل، واسترداد مذكرات التوقيف الغيابية الصادرة بحق المتمنعين عن الحضور!
وعلى المنوال نفسه، سارت محكمة التمييز، التي أعادت رد الاستدعاء في الأساس وتصديق القرار المطعون فيه، على اعتبار أنّ حليل قدَّمَ افادة شفهية غير واضحةٍ وأنّ المقدَّم أنكرَ في كافةِ مراحل التحقيق ما أُسنِدَ اليه، وقد أعادت المحكمة صوغ قضيةِ الشكوك والتأويلات مسقطةً إياها على مجرى التحقيق، ليستخلص في القرار ذات الرقم 261/2018 تاريخ 29 أيار 2018 غياب الجرم عن المقدَّم نجيم وكلّ من شملته القضية.
قرارٌ من هذا القبيل شكَّلَ علامة فارقة لكونه صدر بتبرئةِ مجموعةٍ، كلّ أعضائها من أصحاب السوابق في هذا المجال، لا بل يمكن اصباغها صفةٍ واحدة من أرفع المجموعاتِ المتورِّطة في هذا المجال بل ربّما أخطرها. فهل أنّ “لعبة” السياسة تدخل طيفها في القضاء؟ وإذا كان صحيحًا ذلك، أين دور التفتيش القضائي؟ ولماذا غاب موقف وزير العدل في ذلك العهد؟ وهل وزيرة العدل الجديدة القادمة من بين أجنحة الحراك ستُبادر إلى إعادة فتح الملفات التي تطالها شُبهات قانونية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى