المهاجر : صور عن واقع تلك الايام.. من تاريخ راشيا الوادي

صدى وادي التيم – اخبار وادي التيم/
أحداث قصتنا هذه ستعيدنا نحو قرنين وربع من الزمن ، نتابع ضمنها الظروف التي كانت سائدة وبعض من نمط عيش اجدادنا ، بما ان هذه القصة تحوي غرائب الأحداث و أيضًا ما غاب عن بالنا ، لا أريد لها التلاشي باعتبار انني الوحيد ممن حفظ تفاصيلها كاملة عن لسان والدي الذي سمعها ممن عايشوها على كامل جغرافيتها (قد يكون بعض أقرباء سمعوا اجزاء منها )، حيث دارت أحداثها بين راشيا و المهجر قبل ولادته بسنوات، اردت نشرها ليس لأنها من ضمن ذاكرة مجتمعنا وثقافتنا وحسب ، وإنما من واجبنا إحياء هذه الذاكرة، لان الثقافة معرفة بلا حدود. ولأنها تتضمن أحداث ممتعة في طرافتها وقسوتها في ان ..
راشيا، اواخر القرن الثامن عشر .
.
حسين شاب في مقتبل العمر ، يتمتع ببنية جسدية قوية ، جريء، عنيد ،مندفع ، سريع الغضب ، طيب القلب يزول غضبه سريعًا، رؤيته للمستقبل مشوشة ، خياراته محدودة ، ضيق السبل في ظل الحكم العثماني الظالم ادى الى حيرته ، ارتبك وأربك عائلته لاسيما والده الذي حاول جاهدًا مساعدته ليخط طريقه بمختلف الأساليب والآراء ، لكن واقع الحال في كل زمن ، تحتاج الافكار المنتجة الى المال لتنفيذها ، لكن هذا غير متوفر ، لا متمولين ولامصارف .
توافق حسين و والده على شراء جمل ، يستخدمه للنقل بالاجرة ( مكاري)، بعد مخاض عسير تدبر والده ثمن الجمل ، اشترياه وحصل حسين على مبتغاه ، واصبح قبطان سفينة الصحراء ! ، خصص له مكان في ( الأرضية)غرفة الزريبة في الطابق الارضي ،باشر العمل ووضع الخطط المستقبلية لامتلاك غيره كلما تمكن من ذلك.
(سؤال طرحته على نفسي؟.لماذا تم اختيار جمل وليس غيره ! لا جواب شافي لوجود اكثر من احتمال!؟)
حل فصل الشتاء على راشيا تلك السنة، قاسيًا ، مثلجًا بحيث استمر تساقط الثلوج لاسابيع ، انخفضت درجات الحرارة كثيرًا ، تحولت هذه البلدة الوادعة الى صفيح من جليد ، كأنها تقع في القطب الشمالي ، أسطح المنازل الترابية (من خشب وطين )كانت مهددة بالسقوط جراء حجم و وزن الثلوج المتجمدة ، لا يقل عن اثنين من هذه المنازل كانت قديمة العهد على ما اعتقد ، لم يتمكن أصحابها من جرف الثلوج عنها (وحدلها) تداعت وانهارت على من فيها ، ادت الى سقوط ضحايا . كما كثير من المواشي نفق جراء الصقيع ،
كثُرٌ منا سمع ان حالة الطقس في الزمن الغابر كانت اكثر قسوة في فصل الشتاء ، سمعت مرارًا من والدي ان (المربعانية ) كانت تحل بيضاء، ثلجها كثير .
(مربعانية الشتاء هي فترة يشتد فيها البرد وتستمر أربعين يومًا، ومن هنا أتى الاسم. وتحديدًا هي الفترة الممتدة من 22 كانون الاول الى 31 كانون الثاني ، وتسمى في بعض المناطق الأربعينية، تمتاز هذه الفترة بالبرد القارس وتساقط الثلوج )
ادت هذه العاصفة الهوجاء الى اقفال باب الزريبة لعدة اسابيع والجمل سجينها ، يحصل على علفه من ( المنبج ) (ممر داخلي يصل ما بين الطابقين بواسطة سلم خشبي)الى سقيفة او ( متخت)ليقدم له العلف، بعد هذه الاسابيع القاسية وتحسن حالة الطقس ، باشر حسين بإزالة الثلوج المتراكمة لفتح الطريق الى باب الزريبة ، (قال والدي يومًا ان كثافة الثلوج نتيجة المتساقطات و جرف ثلوج السطح تغطي كامل ارتفاع الطابق الارضي ليتساوى مع سطحه ، اي يطمر بالثلوج بالكامل).
بعد جهد جهيد ، قد يكون حسين عمل لعدة ايام لازالة الثلوج ، الشمس مشرقة لكن الثلوج متماسكة جراء الجليد ، وصل الى باب الزريبة وتمكن من فتحه ، وهنا المفاجاة!! الجمل الصبور في حالة هيجان ، ما ان رأى الضوء يدخل عبر الباب حتى اندفع فجأة نحو حسين مهاجمًا مكشراً ليعضه في كتفه !! لكنه لم يتمكن من غرز اسنانه بشكل كاف جراء سماكة الثياب التي يرتديها، تمزقت هذه وانتزعها ، تسبب له بجروح طفيفة ، فتح فمه مجددًا ليتمكن منه اكثر ويستكمل هجومه!!
تفلت منه حسين وتراجع الى الخلف، في يده (بعكور) او وصل اليه(عصا غليظة متينة ، متوسطة الى قليلة الطول ذات رأس مدبب صلب قد يحمل نتوءات اما طبيعية او مضافة )
قال الراوي لوالدي ما حرفيته ( ما تكون ضعيف يا حسين ، وعلى قد ما الله اعطاك قوة ،شيل البعكور وضربو على راسو) !!!! ضربة واحدة من عصا حسين المدببة كانت كافية لوقف الهجوم ، !!! حيث هو ،،، سقط الجمل صريعًا !!!!
(السؤال يطرح نفسه لماذا هاجم الجمل حسين )
الجواب في حينه انه قد يكون السبب زمن التزاوج ) لكن في بحثي عن السبب المنطقي لم يكن كذلك ،كانت المفاجأة !! تبين ان الجمل حقود وانه يكتم الغضب حتى تأتيه الفرصة للانتقام.ومن أسباب حقد الجمل على الإنسان سوء المعاملة اوالضرب المستمر بقوة، فيتحول الجمل من الحالة الطبيعية إلى الحالة الهستيرية، ويصبح هدفه الوحيد الإنتقام . كما تبين لي ان هناك امثلة عديدة بعض اشخاص فقدوا أطرافًا او كادوا يفقدوها نتيجة عضة جمل حاقد.
اذن الهجوم نتيجة ما اعتبره الجمل سوء معاملة وردة فعل على حبسه ، باعتقادي.
نجا حسين مما هو أعظم وأضرار جسدية طفيفة، والضرر الاكبر الذي لحق به كان نفسياً،،، حزن كثيرًا على جمله ، لام نفسه على فعلته ،(..)غرقت سفينته مضرجة ، احلامه ومخططاته ذهبت ادراج الرياح ، والعوض بالسلامة ، هكذا واساه الاقرباء قبل غيرهم، و عَّودٌْ على بدء.
ماذا سيفعل الان ، لا عودة الى اقتناء جمل .
مرت الأيام،، ضاق به وطنه ، تملكته روح المغامرة ، نظر الى الأفق، أراد ان يمضي إلى أرض أخرى حيث أفق جديد .
فاتح والده بحلمه الجديد طالباً مساعدته على تحقيقه ؛
– كيف يا ولدي أساعد وحش الغربة على التهامك ، تطلب مني ان ادفعك بيدي الى المجهول ، اطلب ما تريد خلاف ذلك .
– اطلب منك البركة والدعاء لي بالتسهيل . لا سبيل امامي سوى الهجرة .
انتهت جولات الجدل ، اقنع حسين والده بعناده .
كما تدبر ابو حسين ثمن الجمل الصريع ، سيتدبر مكرهًا ثمن ( النيلون) كما كانت تسمى اي تذكرة السفر وباقي مستلزمات السفر .
جهز نفسه حسين واستحصل على وثيقة السفر العثمانية ( لم يكن من السهل الحصول على وثيقة سفر ، بسبب تشدد السلطات العثمانية حينها بالسماح لرعايا السلطنة بالسفر ) اخذ من والده ثمن التذكرة حمل متاعه وانطلق للمرة الاولى نحو لبنان ( هكذا كانت التسمية باعتبار ان راشيا قبل لبنان الكبير جزء من سوريا وتتبع ولاية دمشق) قاصدًا مرفأ بيروت ( رحمة الله على هذا المرفق العريق) في المرفاء كان هناك شخصية مشهورة في ذاك الزمن ذكر اسمه امامي على انه( الجاك) اي جاك ومن عائلة معروفة ( مر اسمه امامي صدفة منذ سنوات )وكان السيد جاك متعهد سفر او شيء من هذا القبيل قصده حسين وابتاع تذكرة سفر وبعد مضي الا ادري كم من الوقت، صعد حسين على متن (الببور) ، ومن قبطان سفينة الصحراء الى راكب سفينة بحرية تأخذه نحو المجهول ، الى العالم الجديد …..
يتبع…. ما هو امتع
 المصدر : احمد مهنا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى